ذكر في الآية التي نفسرها ثلاثة أسباب للمعرفة : الأول التجربة الحسية ، وهي المعنية بكلمة علم . الثاني العقل ، وهو المراد بكلمة هدى . الثالث الوحي ، وهو المقصود بكتاب منير . والتجربة الحسية تكون سببا للمعرفة في الماديات فقط لأنها هي التي تقع تحت الحس ، وتتناولها التجربة ، ولا غنى لهذه التجربة عن العقل لأن الحواس لا تدرك إلا بمعونته ، وينحصر طريق المعرفة بالعقل وحده في اثبات الألوهية ، أما النبوة فتثبت به وبالمعجزة معا ، وان شئت الدقة في التعبير فقل :
تثبت النبوة بالمعجزة التي يقرها العقل ، ويعترف بأنها من السماء لا من الأرض ، أما الوحي فهو سبب المعرفة في كل ما جاء به من غير استثناء ، وينحصر طريق المعرفة بالوحي في الأشياء الغيبية كالجن والملائكة ، وتوقيت الساعة ، وكيفية الحساب والجزاء في النشأة الثانية وما إليها .
( ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ونُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ) . هو جاهل يجادل في اللَّه بغير علم ، وهو متكبر يتمايل من الزهو والغرور ، وهو ضال مضل . . وهل من جزاء لأهل الجهل والكبرياء والضلال إلا الهوان والاحتقار من الناس ، وإلا العذاب الأليم من اللَّه ! ؟ ( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وأَنَّ اللَّهً لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) لأنه أعذر إليهم بما وهبهم من العقل ، وما أرسل من الرسل ، وأنزل من الكتب .
( ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهً عَلى حَرْفٍ ) . في الآية السابقة ذكر سبحانه من يكفر باللَّه ، ويجادل فيه بغير علم ، وفي هذه الآية ذكر الذي يعبد اللَّه على حرف ، واختلف المفسرون في المراد منه على أقوال ، منها انه يعبد اللَّه ، وهو على شك في دينه ، ومنها انه يعبده بلسانه دون قلبه ، إلى غير ذلك . . ولا وجه لهذا الاختلاف لأن اللَّه قد بيّن هذا الذي يعبده على حرف ، وفسره بقوله : ( فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ) . والمراد بالخير هنا السراء ، وبالفتنة الضراء ، واطمأن به أي ارتاح إلى ما هو فيه واستمر في العبادة .
وانقلب على وجهه أي ارتد عن دينه . . ومحصل المعنى ان الذي يعبد اللَّه على حرف هو الذي لا يعبده إلا على شرط ان يعوضه عن عبادته ، ويقبض ثمنها في هذه الحياة ، والا كفر به وبكتبه ورسله .