فإن قيل : كيف يصحّ ذلك على أصلكم الّذي تقولون : إنّ من عرف الله لا يجوز أن يكفر ؟ وهؤلاء إذا كانوا كفاراً ، وماتوا على كفرهم ، كيف يجوز أن يكونوا عارفين بصفة محمّد ، وأنّه حقّ ، بما معهم من التوراة ، وذلك مبني على معرفة الله ، وعندكم ما عرفوا الله ؟
قيل : إنّ الّذي يمنع أن يكفر من عرف الله ، إذا كان معرفته على وجه يستحق بها الثواب ، فلا يجوز أن يكفر ، لأنّه يؤدّي إلى اجتماع الثواب الدائم على إيمانه ، والعقاب الدائم على كفره ، والإحباط باطل ، وذلك خلاف الإجماع ، ولا يمتنع أن يكونوا عرفوا الله على وجه لا يستحقون به الثواب لأنّ الثواب إنّما يستحق بأن يكونوا نظروا من الوجه الّذي وجب عليهم ، فأمّا إذا نظروا بغير ذلك ، فلا يستحقون الثواب ، فيكونوا على هذا عارفين بالله وبالكتاب الّذي أنزله على موسى ، وعارفين بصفات النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لكن لا يؤمنون مستحقين الثواب ، وعلى هذا يجوز أن يكفروا .
وفي الناس من قال : استحقاقهم الثواب على إيمانهم مشروط بالموافاة ، فإذا لم يوافوا به ، لم يستحقوا الثواب ، فعلى هذا أيضاً يجوز أن يكونوا عارفين ، وإن لم يكونوا مستحقين لثواب يبطل بالكفر ، والمعتمد الأوّل .
وقال قوم : الآية متوجهة إلى المنافقين منهم ، وكان خلطهم الحقّ بالباطل ما أظهروا بلسانهم من الاقرار بالنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما يستبطنونه من الكفر ، وهذا يمكننا الاعتماد عليه ، ويكون قوله : * ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) * معناه أنّكم تعلمون أنّكم تظهرون خلاف ما تبطنونه ، وهذا أسلم من كلّ وجه على أصلنا .
ويمكن أن يقال : معنى قوله : * ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) * أي عند أنفسكم ، لأنّهم إذا كانوا يعتقدون أنّهم عالمون بالتوراة ، وبأنّه من عند الله ، وفيها ذكر النبيّ ، فهم عالمون عند أنفسهم بنبوته ، ولكن يكابرون .
