فدعا خالد رضي الله عنه بالأدلة ، فارتحل من الحيرة سائراً إلى دومة ، ثم طعن في البر إلى قُراقر ، ثم قال : كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم ، فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين ، فكلهم قال : لا نعرف إلا طريقاً لا تحمل الجيوش ، فإياك أن تغرر بالمسلمين ، فعزم عليه ، ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد ، فقام فيهم فقال : لا يختلفن هديكم ولا يضعفنَّ يقينكم ، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية ، والأجر على قدر الحسبة ، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله له ، فقالوا له : أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك ، فطابقوه وقووا واحتسبوا فلما أراد المسير قال له محرز بن حريش وكان يتجر بالحيرة ويسافر إلى الشام : اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن ، ثم أمه حتى تصبح ، فإنك لا تجور فجرب ذلك فوجده كذلك ، ثم أخذ في السماوة حتى انتهى إلى قُراقر ففوز من قُراقر إلى سوى ، وهما منزلتان بينهما خمس ليال ، فلم يهتدوا للطريق ، فقال له رافع بن عميرة الطائي : خفِّف الأثقال واسلك هذه المفازة إن كنت فاعلاً ، فكره خالد رضي الله عنه أن يخفّف أحداً فقال : قد أتاني أمر لا بدّ من إنفاذه ، وأن نكون جميعاً قال : فوالله إن الراكب المنفرد ليخافها على نفسه ما يسلكها إلا مغروراً فكيف أنت بمن معك ؟ قال : إنه لا بد من ذلك ، فقد أتتني عزمة ، قال : فمن استطاع منهم أن يصرّ أذن راحلته على ماءٍ فليفعل فإنها المهالك إلا ما وقى الله تعالى . ثم قال لخالد رضي الله عنه : ابغني عشرين جزوراً عظاماً سماناً مسان ، فأتاه بها فظمأهنّ حتى إذا أجهدت عطشاً سقاهن حتى أرواهن ، ثم قطع مشافرهن ، ثم كعمهنّ ، ثم قال لخالد رضي الله عنه : سر بالخيول والأثقال ، فكلما نزل منزلاً نحر من تلك الشرف أربعاً فانبط ماءهن فسقاه الخيول وشرب الناس مما تزودوا ، حتى إذا كان آخر تلك قال خالد رضي الله عنه لرافع : ويحك ، ما عندك يا رافع فقال : أدركك الري إن شاء الله ، انظروا هل تجدون شجرة عوسج على ظهر الطريق ، قالوا : لا قال : إنا لله إذاً والله هلكت وأهلكت ، لا أبا لكم ، انظروا ، فنظروا فوجدوها فكبّروا وكبّر وقال : احفروا في أصلها ، فاحتفروا فوجدوا عيناً فشربوا وارتووا فقال رافع : والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة مع أبي وأنا غلام ، فقال راجز من المسلمين : للهِ درّ رافع أنّى اهتدى * فوز من قُراقر إلى سوى أرضاً إذا ما جاءها الجيش بكى * ما سارها من قبله إنس يرى لكن بأسباب متينات القوى * نكبها الله ثنيات الردى وكتب خالد رضي الله عنه وهو مُقْبِل إلى الشام إلى المسلمين : إن كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني يأمرني بالمسير إليكم ، وقد شمرت وانكمشت وكأنْ قد أظلّت عليكم خيلي ورحالي فأبشروا بإنجاز موعود الله تعالى وحسن ثواب الله عز وجل ، عصمنا الله وإياكم باليقين وأثابنا بأحسن ثواب المجاهدين ، والسلام . القرافة : مدفن مشهور في البلاد المصرية يسكنه الناس ويعمرونه . وهي إحدى عجائب الدنيا بما تحتويه عليه من مشاهد الأنبياء عليهم السلام وأهل البيت والصحابة والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء ، ويذكر أن فيها قبر النبي صالح عليه السلام ، وقبر روبيل بن يعقوب عليه السلام ، ومشهد آسية امرأة فرعون ، ومشاهد أهل البيت وفيها بناء حفيل ، وفيها روضات بديعة عجيبة البنيان وكل بها قَوَمَة يسكنونها ويحفظونها ، ومنظرها عجيب ، والجرايات متصلة لقوامها في كل شهر ، وكلها مساجد مبنية ومشاهد معمورة يأوي إليها الغرباء والصلحاء والفقراء ، والأجراء على ذلك كله نيف على ألفي دينار في الشهر ، وهي أربعة آلاف دينار مؤمنية . وإليها ينسب أحمد بن إدريس القرافي الفقيه شهاب الدين من أهل العصر ، له تعليق على محصول ابن الخطيب سماه " نفائس الأصول في شرح المحصول " ، وله " تنقيح الفصول في