التوجه للإسكندرية لقتال من بها من الروم ، أمر بنزع الفسطاط ، فإذا فيه حمام قد أفرخ ، فقال عمرو رضي الله عنه : لقد تحرم منا بحرم ، فأمر بالفسطاط فأقر مكانه وأوصى عليه ، فلما قفل المسلمون من الإسكندرية بعد فتحها قال الناس : أين ننزل ؟ فقيل : الفسطاط ، لفسطاط عمرو الذي تركه في المنزل بمصر . ثم بدأ عمرو بن العاصي رضي الله عنه فبنى المسجد ، وبنى الناس مكان مصر الآن . وهي مدينة كبيرة في غاية من العمارة والخصب والطيب والحسن ، فسيحة الطرقات قائمة الأسواق نافقة التجارات متصلة العمارات ، لأهلها همم سامية ، وطولها ثلاثة فراسخ ، والنيل يأتيها من أعلى أرضها فيجتاز بها من ناحية جنوبها وينعطف مع غربيها ، وبناء دُورها كلها وقصورها طبقات بعضها فوق بعض خَمْساً وستّاً وسبعاً ، وربما سكن في الدار المائة من الناس ، ومعظم بنائها بالطوب ، وأكثر سفل ديارهم غير مسكون ، ولها مسجدان جامعان للخطبة ، أحدهما بناه عمرو بن العاصي رضي الله عنه في وسط السوق يحيط به من كل جهة ، وكان في أوله كنيسة للروم فصيره عمرو جامعاً ، والجامع الآخر بناه أحمد بن طولون وبنى أيضاً جامعاً آخر يسكنه العباد وناس من أهل الخير . وعلى الجملة فمصر عامرة بالناس ، وفي أهلها رفاهية وظرف شامل وحلاوة ، وفي جوانبها بساتين وجنات ونخل وقصب سكر ، كل ذلك يسقى بماء النيل . وأرض مصر لا تمطر إنما هو ماء النيل ، وليس في أرض مصر مما يلي النيل قفر ، إنما هو كله معمور بالبساتين والأشجار والقرى والمدن والناس والأسواق والبيع والشراء ، وبين طرفي النيل خمسة آلاف وستمائة وأربعة وثلاثون ميلاً ، وقيل غير ذلك وعرضه في بلاد النوبة والحبشة ثلاثة أميال ، وعرضه بمصر ثلثا ميل ، وليس يشبه نهراً من الأنهار . ويقابل مصر جزيرة في النيل ، فيها المباني والمتنزهات ودار المقياس ، وهي دار كبيرة في وسطها فسقية كبيرة ، وينزل إليها بدرج رخام ، وفي وسط الفسقية عمود رخام قائم ، فيه رسوم أعداد أذرع وأصابع بينها ، والماء يصل إلى هذه الفسقية ، ولا يدخلها الماء إلا عند زيادة النيل ، ويكون في شهر أغشت ، والوفاء من مائه ستة عشر ذراعاً ، وهو الذي يروي أرض السلطان باعتدال ، فإذا بلغ النيل ثمانية عشر ذراعاً أروى جميع الأرضين التي هناك ، فإذا بلغ عشرين ذراعاً فهو ضرر ، وأقل زيادته اثنا عشر ذراعاً وهي أربع وعشرون اصبعاً والزائد على الثمانية عشر ذراعاً ضرر يقلع الشجر ويهدم ، وما نقص عن اثني عشر ذراعاً فيه القحط والجدب وقلة الزراعة فسّا : بتشديد ثانيه مقصور ، مدينة من بلاد فارس ، أنشد الأصمعي : * من أهل فسّا ودرابجرد * والنسب إليها فسوي ، وإليها ينسب أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الفسوي . وبينها وبين درابجرد أربعة وخمسون ميلاً ، وفسا مدينة واسعة وأبنيتها أفسح وأتم من أبنية شيراز ، والغالب عليها خشب الصنوبر والسرو ، وهي عامرة بالناس والجلة والتجار والمياسير ، وهي تقارب شيراز في كبر مقدارها وكثرة عمارتها ، وهواؤها أصح من هواء شيراز ، وعليها حصن حصين وأبواب خشب محددة ، وحولها خندق واسع عميق ، وبها ربض ، وأكثر أسواقها في ربضها ، وبها من غلات الرطب والبلح والجوز والأترج والسفرجل والقصب الحلو ما يقوت ويكفي ويزيد على الحاجة . وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بعث سارية بن زنيم إلى فسا ودرابجرد في جيش وأمره عليهم ، وكان سارية في الجاهلية خليعاً وحسن إسلامه ، ثم وقع في بال عمر رضي الله عنه وهو يخطب يوم الجمعة أنهم لاقوا العدوّ وهم في بطن واد ، وقد هموا بالفشل ، وبمقربة منهم جبل ، فقال قي أثناء خطبته رافعاً صوته : يا سارية بن زنيم ، الجبل الجبل ، ظلم من استرعى الذئب ، فحمل الله تعالى صوته وألقاه في سمع سارية ، فانحاز بالناس إلى الجبل ، وقاتلوا العدو من جنب واحد ففتح الله عليهم .