وكان صاحب ماشية ، وكثيراً ما كان ينتجع موضع سجلماسة ، وكان يجتمع بالموضع بربر تلك النواحي ، فاجتمع إلى مدرار قوم من الصفرية ، فلما بلغوا أربعين رجلاً ، قدموا على أنفسهم مدراراً ، وشرعوا في بناء سجلماسة فبنوها ، ثم سورها أبو المنصور اليسع بن أبي القاسم بن مدرار ، ولم يشركه في الإنفاق في بنائه أحد ، أنفق فيه ألف مدي من طعامه . وقال آخرون : إن رجلاً جواداً اسمه مدرار كان من ربضية قرطبة ، خرج من الأندلس عند وقعة الربض ، فنزل منزلاً بقرب سجلماسة ، وموضع سجلماسة إذ ذاك سوق لبربر تلك النواحي ، فابتنى بها مدرار خيمة وسكنها ، فبنى الناس حوله ، فكان ذلك أصل عمارتها ، وكان رجلاً أسود وهجي أولاده بذلك . ولسجلماسة اثنا عشر باباً ولها بساتين كثيرة ، وهي كثيرة النخل والأعناب وجميع الفواكه ، وزبيب عنبها المعرش الذي لا تناله الشمس لا يزبب إلا في الظل ، ويسمى الظلي ، وما أصابته الشمس منه زبب في الشمس . وهي على نهرين من عنصر واحد في موضع يسمى الحلف وتمده عيون كثيرة ، ولهم مزارع كثيرة يسقونها من النهر في حياض كحياض البساتين ، ويزرع بأرض سجلماسة عاماً ويحصد من تلك الزريعة ثلاثة أعوام ، لأنه بلد مفرط الحر شديد القيظ ، فإذا يبس الزرع تناثر عند الحصاد ، وأرضهم مشققة ، فيقع ما يتناثر من الحب في تلك الشقوق ، فإذا كان العام الثاني أخرجوا النهر على عادتهم ، لأن ماء المطر قليل عندهم وحرثوا بلا بذر وكذلك العام الثالث . وقمحهم رقيق الحب يسع مد النبي صلى الله عليه وسلم من قمحهم خمساً وسبعين ألف حبة ، وهم يأكلون الزرع إذا أخرج شطأه ، وهو عندهم مستظرف . ومن العجيب بسجلماسة أنها ليس فيها ذباب ولا كلاب لأنهم يسمنونها ويأكلونها كما يصنع أهل البلاد الجريدية ، ويسمون الكنافين عندهم المجرمين والبناءون عندهم اليهود لا يتجاوزون بهم هذه الصناعة . والسبب في تسخير أهل سجلماسة لليهود في ذلك كونهم محبين في سكنى بلادهم للاكتساب ، لما علموا أن التبر بها أمكن منه بغيرها في بلاد المغرب لكونها باباً لمعدنه ، فهم يعاملون التجار به ليخدعوهم بالسرقة وأنواع الخداع ، ولما علم منهم ذلك أبو عبد الله الداعي ، عند استخراجه عبيد الله الشيعي من سجن اليسع بن مدرار بسجلماسة ، وكان الذي عرف به ونم عليه يهودي ، وحكى عبيد الله لأبي عبد الله ما جرى له معهم ، قتل منهم الأغنياء وأخذ أموالهم بالعذاب وأمر من شاء منهم أن يقيم معهم في البلد بأن يتصرف في هذه الصناعة وفي شغل الكنافين ، فمن دخل في الكنافين من أصناف الناس سموهم المجرمين لاجترامهم على حرفة موقوفة على اليهود . وقصروا البناء عليهم خاصة لأنهم خائفون من أن يجوز أحدهم المسلم فيهلكه فهم ينصحونهم في البناء ويلازمون الخدمة دون تردد ، وهم الآن قد داخلوا المسلمين . وبسجلماسة كان قيام الدعوة العبيدية وإخراج أبي عبد الله الشيعي لعبيد الله المهدي من سجن اليسع بن مدرار . قالوا : وكان أبو عبد الله الشيعي محققاً لوجود الإمام المهدي ، والخبر عن خروجه إلى شاطئ دجلة وقراءته لسورة الكهف ولقائه الشيخ الذي معه الغلام ، وسؤال الشيخ الذي مع الغلام له عن قتل الغلام المذكور في الآية بأمر لا يتحقق ، ثم اجتماعه به في منزله وقول الشيخ له : إن الغلام الذي معه هو ولده عبيد الله وإنه الإمام المنتظر ، وقوله لأصحابه الذين كانوا معه : هذا ثاني عشرتكم ، وتوجيهه له إلى المغرب ليكون آخر دعاته إلى المهدي عبيد الله ، مطول مشهور فلنختصره . وكان ذلك في خلافة المعتضد سنة ثمانين ومائتين ، ثم مات الشيخ والد عبيد الله ، فهرب عبيد الله إلى مصر ونفذت مخاطبات المعتضد إلى صاحب مصر في طلبه والقبض عليه ، وإلى اليسع بن مدرار صاحب سجلماسة مثل ذلك ، فلما خرج المهدي من مصر ، بعث واليها في طلبه ، فوجد راجعاً يذكر أنه يطلب كلباً هرب له ، فحمل إلى الوالي ، وقيل له : هو صياد هرب له كلب فطلبه ، وشهد له بذلك شهود ، وقيل : أعطى الوالي ما كان معه فأطلقه ، ثم وصل إلى سجلماسة فدل عليه يهودي كان هناك ، فأخذه اليسع بن مدرار وسجنه هناك وكبله ، وتبعه ولده أبو القاسم ، فسجنه أيضاً في قرية بالقرب من سجلماسة ، فخاطب من السجن أبا عبد الله الداعي فأعلمه بحاله ، فاستنفر الداعي قبائل كتامة ومن استجاب لدعوته وقصد سجلماسة ،