إذا هبت الريح الغربية ملأت عليهم سككهم وبيوتهم رملاً ، فلا يقدرون على التصرف في أسواقهم ، وهي على ضفة النيل ، وضفة النيل من مصر إلى مدينة رشيد هذه من أعجب متنزهات الدنيا ، وليس لغلات هذه الناحية نظير في الدنيا ، ورئي في تلك الجهات ضيعة لأحد المصريين يغل رمانها وموزها خاصة خمسة عشر ألف مثقال في العام ، وهناك كانت ضيعة الليث بن سعد وكان يقول : يدخل علي كل سنة خمسون ألف دينار ما وجبت علي زكاتها قط . الرها : بضم الراء والمد ، مدينة من أرض الجزيرة متصلة بحران ، وإليها ينسب الورق الجيد من ورق المصاحف ، وهي مدينة ذات عيون كثيرة عجيبة تجري منها الأنهار ، وبينها وبين حران ستة فراسخ . والرها مدينة رومية عليها سور حجارة ، تدخل منها أنهار وتخرج عنها ، وهي سهلية جبلية كثيرة البساتين والخيرات ، مسندة إلى جبل مشرفة على بساط من الأرض ممتد إلى حران ، ولها أربعة أبواب منها في الجنوب باب حران وفي الشرق الباب الكبير ، وعلى هذا الباب حصن منيع جداً تحصن فيه المسلمون بعد أخذ الروم للرها ستة أشهر ولم ينزلوا إلا على اختيارهم ؛ وفي الشمال باب سبع وفي الغرب باب الماء ، وبساتينها في الشرق منها ويشق بعضها نهر يسمى بالسكيرات ، وتخرج من الرها عين تسمى بعين مياس ، وليس في جميع بلاد الجزيرة أحسن منها منتزهات ولا أكثر منها فواكه ، وعنابها على قدر التفاح ، وقد ذكر أنه لم يوجد بناء خشب أحسن من بناء كنيستها لأنها مبنية بخشب العناب ، وليس بمدينة الرها ربض ، والفرات منها في ناحية المغرب على مسيرة يومين ، وفي ناحية الشمال على مسيرة يوم ، وهي من حران ما بين المغرب والشمال ، وبينهما نحو أربعة فراسخ ، وهذا خلاف ما تقدم . ويمتاز أهل الرها من أهل تلك الناحية بجمال الصور وكمال الخلق . قال العلاء بن أبي عائشة : كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله : سل أهل الرها هل عندهم صلح ، فسألتهم ، فأتاني أسقفهم بحق فيه كتاب صلحهم فإذا فيه : كتاب من عياض بن غنم ومن كان معه من المسلمين لأهل الرها ، إني أمنتهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم وبلادهم إذا أدوا الحق الذي عليهم ، شهد الله وملائكته . قال : فأجازه لهم عمر بن عبد العزيز . وذكر أن عياضاً لما صالح أهل الرها دخل أهل الجزيرة فيما دخلوا فيه من الصلح . ولما نزل عياض على حران سنة ثمان عشرة فحاصرها كلمه أهلها أن يصير إلى الرها ، فما صالحوه عليه صالحوه بمثله ، ورضي النصارى بذلك ، فأتى الرها فخرجت مقاتلتهم فهزمهم المسلمون حتى ألجأوهم إلى المدينة فطلبوا الأمان والصلح فأجابهم عياض إليه وكتب لهم : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من عياض بن غنم لأسقف الرها ، إنكم إن فتحتم لي باب المدينة على أن تؤدوا لي عن كل رجل منكم ديناراً ومديي قمح فأنتم آمنون على أنفسكم وأموالكم ومن تبعكم ، عليكم إرشاد الضال وإصلاح الجسور والطرق ونصيحة المسلمين ، شهد الله وكفى به شهيداً . وصالح عياض أهل حران على مثل صلح الرها وفتحوا له أبوابها ، وولاها رجلاً ثم سار إلى شمشاط . وقد استولى الروم بعد عشرين وأربعمائة على مدينة الرها وكان في كنيستها مال عظيم من قبل أن يفتتحها المسلمون في سرب في جوف الكنيسة كان أهلها يراعونه ويكتمون أمره ، فلما دخلها الروم أظهروه وأخرجوه وحملوه إلى القسطنطينية . قالوا : وبنى كنيسة الرها يسطانياس الملك ، وهو الذي شيد مدن النصرانية وأظهر مذهب الملكية . وكنيسة الرها إحدى عجائب العالم والهياكل التي فيها . قالوا : وكان في هذه الكنيسة منديل يعظمه أهل النصرانية ، وهو أن إيشوع الناصري حين أخرج من ماء المعمودية نشف به ، فلم يزل هذا المنديل يتداول إلى أن حصل بكنيسة الرها ، فلما اشتد أمر الروم على المسلمين وحاصروها سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة أعطي هذا المنديل للروم فجنحوا إلى الهدنة ، وكان للروم عند تسليمهم هذا المنديل فرح عظيم . قال حمزة الشامي : اجتزت بكنيسة الرها عند مسيري إلى العراق فدخلتها لأشاهد ما كنت أسمعه عنها ، فبينا أنا أطوف فيها