وقَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ . فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ : اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وحَسْرَةُ الْفَوْتِ ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ ، وتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً ، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وبَيْنَ مَنْطِقِهِ ، وإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ ، ويَسْمَعُ بِأُذُنِهِ ، عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ ، وبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ ، وفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ ويَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا ، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا ، وأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا ومُشْتَبِهَاتِهَا ، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا ، وأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا ، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا ، ويَتَمَتَّعُونَ بِهَا ، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ والْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ . والْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا ، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ ، ويَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ ، ويَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا ويَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ ، ولَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ : يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ ، ولَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ . ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ ، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ ، وتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ .لَا يُسْعِدُ بَاكِياً ، ولَا يُجِيبُ دَاعِياً . ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٌّ فِي الأَرْضِ ،