أنها لا تغيب ولا تتوارى فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاؤوا ، وصار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الأرب والمصلحة ، وفيهما مآرب أخرى علامات ودلالات على أوقات كثيرة من الأعمال ، كالزراعة والغراس والسفر في البر والبحر ، وأشياء مما يحدث في الأزمنة من الأمطار والرياح والحر والبرد ، وبها يهتدي السائرون في ظلمة الليل ، لقطع القفار الموحشة واللجج [1] الهائلة ، مع ما في ترددها في كبد السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من العبر ، فإنها تسير أسرع السير وأحثه [2] . أرأيت لو كانت الشمس والقمر والنجوم بالقرب منا ، حتى يتبين لنا سرعة سيرها بكنه ما هي عليه ، ألم تكن تستخطف الأبصار بوهجها وشعاعها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت واضطرمت في الجو ؟ وكذلك أيضا لو أن أناسا كانوا في قبة مكللة بمصابيح تدور حولهم دورانا حثيثا لحارت أبصارهم حتى يخروا لوجوههم . فانظر كيف قدر أن يكون مسيرها في البعد البعيد ، لكيلا تضر في الأبصار ، وتنكأ فيها ، وبأسرع السرعة . لكيلا تتخلف عن مقدار الحاجة في مسيرها ، وجعل فيها جزءا يسيرا من الضوء ، ليسد مسد الأضواء إذا لم يكن قمر ، ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة ، كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي [3] في جوف الليل ، فإن لم يكن شئ من الضوء يهتدي به لم يستطع أن يبرح مكانه . فتأمل اللطف والحكمة في هذا التقدير ، حين جعل للظلمة دولة ومدة لحاجة إليها ، وجعل خلالها شئ من الضوء للمآرب التي وصفنا .
[1] - اللجج جمع لجة : معظم الماء . [2] - أسرع السير وأحثه كلاهما بمعنى واحد . [3] - التجافي من تجافى أي لم يلزم مكانه .