به ينطف [1] دما ويقطر مهجا [2] ، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال [3] ، وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة ، التي جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات [4] ، وكثيرا ما أذاكر الإخوان بها وأستخرج عجبهم منها ، وهي موضع للعبرة بها والفكرة فيها وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد ، والمعنى المكرر ، والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف ، اختلافا شديدا ، فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه ، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى ، موضوعا غير موضعه الأول ، إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضي الحال أن يعاد استظهارا للاختيار ، وغيرة على عقائل الكلام [5] ، وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا ، فأعيد بعضه سهوا أو نسيانا لا قصدا واعتمادا . ولا أدعي مع ذلك أني أحيط بأقطار [6] جميع كلامه ( ع ) ، حتى لا يشذ عني منه شاذ ولا يند ناد [7] ، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي ، والحاصل في ربقتي [8] دون الخارج من يدي ، وما علي إلا بذل الجهد وبلاغة الوسع ، وعلى الله سبحانه وتعالى نهج السبيل [9] وإرشاد الدليل ، إن شاء الله . ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة ، إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ويقرب عليه طلابها ، فيه حاجة العالم والمتعلم وبغية البليغ والزاهد ، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل ، وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه الخلق ، ما هو بلال كل غلة [10] وشفاء كل علة ، وجلاء كل شبهة . ومن الله سبحانه أستمد التوفيق والعصمة ، وأتنجز التسديد والمعونة ، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ، ومن زلة الكلم قبل زلة القدم [11] ، وهو حسبي ونعم الوكيل
[1] ينطف : من نطف كنصر وضرب ، نطفاً وتنطافاً : سال . [2] المهج : جمع مهجة ، وهي : دم القلب ، والروح . [3] الأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم ، مات منهم واحد بدل الله مكانه آخر . والواحد بدل بديل . [4] الأشتات : جمع شتيت : ما تفرق من الأشياء . [5] عقائل الكلام : كرائمه . وعقيلة الحي : كريمة . [6] أقطار الكلام : كرائمه . وعقيلة الحي : كريمته . [7] الناد : المنفرد الشاذ . [8] الربقة : عروة حبل يجعل فيها رأس البهيمة . [9] نهج السبيل : إبانته وإيضاحه . [10] الغلة : العطش ، وبلالها : ما تبل به وتروى . [11] زلة الكلم : الخطأ في القول ، وزلة القدم ، خطأ الطريق والانحراف عنه .