وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا وفصلته فصولا ، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه ( ع ) ، من الكلام القصير ، في المواعظ والحكم والأمثال والآداب ، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة ، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ، ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره ، معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه [1] ، وسألوني عند ذلك أن أبتدئ بتأليف كتاب ، يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين ( ع ) ، في جميع فنونه ومتشعبات غصونه ، من خطب وكتب ومواعظ وأدب ، علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة وجواهر العربية ، وثواقب [2] الكلم الدينية والدنيوية ، ما لا يوجد مجتمعا في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين ( ع ) مشرع الفصاحة وموردها [3] ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه ( ع ) ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب [4] ، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا ، لأن كلامه ( ع ) الكلام ، الذي عليه مسحة [5] من العلم الإلهي ، وفيه عبقة [6] من الكلام النبوي فأجبتهم إلى الابتداء بذلك ، عالما بما فيه من عظيم النفع ، ومنشور الذكر ومذخور الأجر ، واعتمدت به [7] أن أبين عن عظيم قدر أمير المؤمنين ( ع ) ، في هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدثرة [8] والفضائل الجمة ، وأنه ( ع ) انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين ، الذين إنما يؤثر [9] عنهم منها القليل النادر ، والشاذ الشارد [10] ، فأما كلامه فهو البحر الذي لا يساجل [11] ، والجم الذي لا يحافل [12] ،
[1] البدائع جمع بديعة وهي الفعل على غير مثال ، ثم صار يستعمل في الفعل الحسن وإن سبق إليه مبالغة في حسنة ، والنواصع جمع ناصعة ، والنواصع : الخالصة ، وناصع كل شيء خالصه . [2] الثواقب : المضيئة ، ومنه الشهاب الثاقب . ومن الكلم ما يضيء لسامعها طريق الوصول إلى ما دلت عليه فيهتدي بها إليه . [3] المشرع : تذكير المشرعة ، وهو المورد . [4] حذا كل قائل : اقتفى واتبع . [5] عليه مسحة : أثر أو علامة . وكأنه يريد « بهاء منه وضياء » [6] العبقة : الرائحة اللاصقة بالشيء والمنتشرة عنه . [7] اعتمدت : قصدت . [8] الدثرة بفتح فكسر : الكثيرة وكذلك الحمة . [9] يؤثر : أي ينقل عنهم ويحكى . [10] الشاذ الشارد : المنفرد الذي ليس له أمثال . [11] لا يساجل : لا يغالب في الامتلاء وكثرة الماء . [12] لا يحافل : لا يغالب في الكثرة ، من قولهم : ضرع حافل : ممتلئ كثير اللبن . والمراد أن كلامه لا يقابل لكلام غيره لكثرة فضائله .