عاقلا ، سأل ثانياً حيث ( قال : قلت : فالذي كان في معاوية ) الموصول مبتدأ خبره محذوف وهو ما هو ( فقال ) كشفاً لغمّته وتوضيحاً لمسألته ( تلك النكراء ) النكراء بالفتح والسكون والنكر بالضم وبضمتين : المنكر والأمر الشديد وكلّ ما قبّحه وكرهه العقل أو الشرع فهو منكر أي تلك القوّة التي كانت في معاوية وكانت سبباً لتحصيله المصالح الدّنيوية واكتساب الأُمور الشرّية ، وانحرافه عن الله وعن أمر الآخرة قوّة منكرة شنيعة قبيحة ( تلك الشيطنة ) فيعلة من شطن عنه إذا بعد ، ومنه الشيطان لبعده عن رحمة الله سبحانه والمراد بها رويّة نفسانية تكتسب بها أعمال الجاهلين وملكة شيطانيّة يقترف بها أفعال الشياطين ، وقوّة داعية إلى الأغراض الفاسدة والشرور وتحصيل المطالب بالحيل والمكر وقول الزور ( وهي شبيهة بالعقل ) في أنّها حالة للنفس وقوّة محرّكة لها منافعها كما أنّ العقل كذلك . توضيح ذلك : أنَّ العقل نورانيّة شريف الذات نقيّ الجوهر يدعو إلى ملازمة العلم والعمل واكتساب المنافع الاخرويّة الموجبة للسعادة الأبديّة وكلّما زاد العلم والعمل زادت نورانيّته وصفاؤه حتّى يصير نوراً محضاً وضوءاً صرفاً يضيء به سماء القلوب وأرض النفوس ، والشيطنة قوّة ظلمانيّة خسيس الذات مكدّر الجوهر تدعو إلى ملازمة الشرور واكتساب المنافع الدّنيوية الموجبة للشقاوة السرمديّة واقتراف زهراتها الزائلة الفانية بالمكر والحيل والوساوس الشيطانيّة وكلّما زادت تلك الشرور والمنافع زادت ظلمتها وكثرت كدورتها حتّى تصير ظلمة صرفة وشيطنة محضة ، ولكن لمّا كان التمايز بينهما ومنافع العقل من الأُمور المعنويّة ومنافع الشيطنة ورويّتها من الأُمور الحسّيّة صارت الشيطنة شبيهة بالعقل بل عقلا عند الجهّال ( وليست بالعقل ) ولا شبيهة به عند أهل الفضل والكمال ، فالجهّال لفقدان بصيرتهم عن تلك القوّة النوارنيّة وعميان سريرتهم عن مشاهدة تلك الرّوية الربّانيّة مع سماعهم بأنّ للانسان عقلا هو مبدء الفطانة والرّويّة يغصبون اسم العقل عن موضعه ويسمّون هذه الرويّة النكراء وهذه الفطانة العمياء عقلا ويعدّون معاوية من جملة العقلاء ، وأمّا أهل الفضل والكمال فإنّهم يعرفون بنور البصيرة أنّ بين تينك القوّتين تبايناً بحسب الذات والصفات لأنّ إحداهما نور والأُخرى ظلمة ، وبين الحركتين تغايراً في الجهات لأنّ جهة إحداهما التقرّب بالحقّ والنتعّم وجهة الأُخرى التقرّب بالشيطان والدخول في الجحيم وبين المغرضين تفاوتاً في الحالات لأن غرض إحداهما التلذُّذ باللّذّة الرّوحانية وغرض الأُخرى التلذّذ باللّذّة الجسمانيّة ، ويمكن أن يقال : العقل على أيّ معنى كان يقع الاشتباه بينه وبين الشّيطنة عند الجهلة لأنّ في كلِّ واحد منهما جودة الرَّوية وسرعة التفطّن بما ينفع ويضرُّ وعزم الانتقال إلى النافع والاجتناب عن الضارّ سواء كان متعلّقاً بأمر الدّنيا بأمر الآخرة تحقيق ذلك أنّ للعقل على الإطلاق بداءة ونهاية وكلتهاهما تسمّيان عقلا أمّا الأُولى فهي جوهر مبدء