نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 74
على تجربتها على الآدميين ، ألم يتميز هؤلاء جميعا بعقول واسعة ومدارك قد تهون أمامها مدارك الآخرين ؟ مع ذلك ، فما كان من شأنهم إلا التقتيل والتدمير والاعتداء على مقدسات الحضارة ومخلفات الجهود الإنسانية ، وعلى كرامة الحياة والأحياء وخير الوجود ! ذلك أن عقولهم لم تواكبها الضمائر السليمة والعواطف الكريمة ! فحيث لا ضمير ولا عاطفة ، لا نفع من العقل ، بل قل إنه إلى المضرة أقرب . ولا أريد هنا التفصيل بين مختلف قوى الإنسان من عاطفة وضمير وعقل وما إليها ، فهي ولا شك تتفاعل وتتعاون . غير أن ما أردته بالعقل هو القوة التي تعقل الأمور على صعيد يربط السبب بالنتيجة ويحكم بين العلة والمعلول ، فيدور في نطاق من الأرقام والحدود التي لا تتأثر ، بحد ذاتها ، بالبيئة الإنسانية الخاصة والعامة . وعلى هذا الضوء أجزت هذا التفصيل . إذن ، فالعقل المكتشف لا بد لصاحبه من ضمير وعاطفة يدفعانه في طريق الخير ، وما يصح بهذا الشأن في المشترع يصح في المشترع له . فالأفراد الذين يطلب إليهم أن يسيروا على هذا النظام الخير أو ذاك ، لا بد لهم من اقتناع وجداني ، إلى جانب الاقتناع العقلي المجرد ، يدفعهم في طريق التهذيب الإنساني الرفيع ، لبناء المجتمع الصالح . لا بد لهم من التمرس بالفضائل الأخلاقية التي تحيط الأنظمة والتشريعات بحصون رفيعة منيعة . لا بد لهم من أن يكونوا خيرين ! لذلك راح علي يحرك في الأفراد عواطف الخير على ما رأينا ، ويوقظ فيهم ما غشته الأيام من الضمائر السليمة . ويعمل على إنمائها وينصح برعايتها . توجه علي إلى الضمائر بتوصياته وخطبه وعهوده وأقواله جميعا . لأنه لم يفته أن لتهذيب الخلق شأنا في رعاية النظم العادلة ، وفي بث الحرارة في المعاملات بين الناس . ولم يفته كذلك ، أن هذا التهذيب يطلب لذاته بما هو من القيم الإنسانية ، كما يطلب لحماية العدالة الاجتماعية وسننها بما هو ضبط لنوازع وتوجيه لأخرى . وقد ساعده في ذلك ما أوتي من مقدرة خارقة ينفذ بها إلى أعماق الناس أفرادا وجماعات ، فيدرك ميولهم وأهواءهم ، ويعرف طباعهم وأخلاقهم ، فيزن خيرها وشرها ، ثم يصور ، ويطور ، ويأمر وينهى ، على ضوء ثقته الراسخة بالضمير الإنساني الذي يتوجه إليه .
74
نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 74