نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 48
والمصفقون لكل لماع تافه فارغ ، ولكن هذا الانهيار لا يلبث . أن يتلاشى فجأة حين تطل شمس الحقيقة ، وحين يكنس نورها العظيم ما خاله العاديون نورا وهو غش للعيون ، وحين تعصف رياح الوجود العادل بعصافة التبن الخفيف . ومن التاريخ والحاضر دلائل لا تحصى على هذا الاضطراب في المقاييس لدى الأفراد والجماعات ، وهو اضطراب يستلزم نتائج تؤذي الحضارة والحياة والانسان لما فيها من انحراف عن موازين العدالة الكونية . فلو كنت تعيش في فترة من العصور الوسطى بأوروبا ، مثلا ، لشاهدت في بعض أيامك مواكب من الناس تتلوها مواكب بإحدى الساحات العامة من هذه المدينة أو تلك ، ذلك قصد التهليل والتصفيق لمخلوق من الناس مزركش الألبسة عاصب الرأس بالزمرد والزبرجد والحجارة الكريمة المنظومة . ولشاهدت رجلا يسير على الرصيف وحيدا ، عصبي الخطوة عنيف النظرة ، لا يعنيه أمر المهللين ولا يعنيهم أمره . فهم يهتفون بحياة ( عظيم ) وهو إذ ذاك ( ليس بعظيم ) ثم أشرقت الشمس بعد زمن فطغت على الظلمة وأبرزت الأشياء في مواضعها الحقيقية . فماذا ترى عند ذاك ؟ ترى أن هؤلاء الناس المهللين المصفقين - وهم بهذا المقام بمنزلة اللاشئ - إنما كانوا يهتفون لمخلوق تافه يدعى لويس الرابع عشر مثلا ، أو لنذل من الأنذال يدعى شارل الخامس ، أو لصغير كل الصغارة يدعى شارل الأول ، أو لغيرهم ممن يحملون أسماء تليها أرقام . . . دلالة على الصغارة . ثم ماذا يتضح لك بعد ذاك ؟ يتضح أن رجل الرصيف الذي لم يهلل له القوم ولم يهتفوا بحياته ، إنما هو عظيم حق يدعى موليير ، أو ملتون ، أو غاليليو . وتجري الأيام ، فإذا بأصحاب الأسماء التي تليها الأرقام ، ليسوا إلا التفاهة كلها . وإذا بالمشاة على الرصيف ولا أرقام لأسمائهم ، ولا مهللين لهم ، ليسوا إلا العظمة كلها . ويطوي النسيان التافهين ، ويطوي معهم أولئك ( اللاشئ ) من المصفقين الهاتفين . ويبرز هؤلاء على هامة الوجود ، وتنزلهم الإنسانية من نفسها منازل الشموس من الظلمات . ويبرز معهم نفر قليل من الخلق هم الذين فهموهم ، وقدروهم قدرهم العظيم ، وتدفأوا بحرارتهم كما تتدفأ الأرض بنور الظهيرة ، وأدركوا ما أدركه علي بن أبي طالب إذ قال : ( رب يسير أنمى من كثير ! ) إنها العدالة الكونية التي تزن كل حي بميزانها العظيم ، وتضعه موضعه ، لا غش في ذلك ولا خداع ، ولا مجاملة ! العدالة الكونية التي لا تهون لديها قيمة ولا تعلو تفاهة ! .
48
نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 48