نام کتاب : روائع نهج البلاغة نویسنده : جورج جرداق جلد : 1 صفحه : 42
عصفها بالفضاء وترد أوله إلى آخره ، وساجيه إلى مائره ( 1 ) حتى يعب عبابه ) . ومن زينة الأرض وبهجة القلوب هذه النجوم وهذي الكواكب ، وضياء الثواقب ( 2 ) والسراج المستطير ( 3 ) والقمر المنير ! أحس ابن أبي طالب من وراء ذلك جميعا أن هذا الكون القائم بالحق ، إنما ترتبط عناصره بعضها ببعض ارتباط تعاون وتساند ، وأن لقواه حقوقا افترضت لبعضها على بعض ، وأنها متكافئة في كل وجوهها متلازمة بحكم وجودها واستمرارها . فأدرك في أعماقه أن المقايسة تصح أصلا وفرعا بين هذه العناصر المتعاونة المتكافئة ، وبين البشر الذين لا بد لهم أن يكونوا متعاونين متكافئين بحكم وجودهم واستمرارهم ، فهم من أشياء هذا الكون يجري عليهم ما يجري على عناصره جميعا من عبقرية التكافل الذي يراه علي فرضا عليهم لا يحيون إلا به ولا يبقون . فإذا به يلف عالم الطبيعة الجامدة وعالم الإنسان بومضة عقل واحدة ، وانتفاضة إحساس واحدة ، ليستشف عدالة الكون القائم على وحدة من الصدق والثبات والعدل ، مطلقا هذا الدستور الذي يشارك به الكون في التعبير عن ضميره ، قائلا : ( ثم جعل من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافأ في وجوهها ، ويوجب بعضها بعضا ، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض ! ) ومن هذا المعين أيضا قول له عظيم يقرر به أن دوام نعمة من النعم مرهون بما فرض على صاحبها من واجب طبيعي نحو إخوانه البشر ، وأن عدم القيام بهذا الواجب كاف وحده لأن يزيلها ويفنيها : ( من كثرت النعم عليه كثرت الحوائج إليه . فمن قام فيها بما يجب عرضها للدوام والبقاء ، ومن لم يقم فيها بما يجب عرضها للزوال والفناء .