فقد مثلت أحزانها المرهقة على فراق أبيها الذي أخلصت له في الحب كما أخلص لها أبوها ، ولو صبت مصائبها الموجعة على الأيام لخلعت زينتها . . . كما صورت هذه الأبيات الحزينة مدى منعتها وعزتها أيام أبيها فقد كانت من أعز نساء المسلمين شأنا وأعلاهن مكانة ، ولكنها بعدما فقدت أباها تنكر لها القوم ، وأجمعوا على الغض من شأنها ، حتى صارت تخضع للذليل ، وتتقى ممن ظلمها بردائها إذ لم يكن هناك من يحميها ، ولم تكن تأوي إلى ركن شديد . وقد خلدت إلى البكاء والحزن حتى عدت من البكائين الخمس [1] الذين مثلوا الحزن والأسى في هذه الحياة ، وقد بلغ من عظيم وجدها على أبيها أن أنس بن مالك استأذن عليها ليعزيها بمصابها الأليم ، وكان ممن وسد رسول الله ( ص ) في مثواه الأخير فقالت له : " أنس بن مالك ؟ " . نعم يا بنت رسول الله " . فقالت له وهي تلفظ قطعا من قلبها المذاب : " كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول الله ( ص ) " [2] . وقطع أنس كلامه ، وطاش لبه ، وخرج وهو يذرف الدموع قد غرق في عالم من الأسى والشجون . وألحت بضعة رسول الله ( ص ) على ابن عمها أمير المؤمنين أن يريها القميص الذي غسل فيه أباها رسول الله ( ص ) فجاء به إليها فأخذته بلهفة وهي توسعه تقبيلا وشما لأنها تجد فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه ، ووضعته على عينيها ، وقلبها الزاكي يتقطع من ألم الحزن والأسى
[1] البكائون الخمس : آدم ويعقوب ، ويوسف ، وعلي بن الحسين وفاطمة ، جاء ذلك في بحار الأنوار 10 / 44 . [2] سنن ابن ماجة ( ص 18 ) المواهب اللدنية للقسطلاني 2 / 382 .