وإنا ذاكرون حادثة ( مينا ) أخي ( بنيامين ) فقد مثلوا به أشنع تمثيل . حيث أوقدوا المشاعل وأحرقوه بها حتى تساقط الدسم من جنبيه على الأرض ، ولما وصل به التعذيب إلى هذا الحد لم يزدد إلا اعترافا بمذهبه ، فاقتلعت أسنانه ، ثم وضع في حقيبة ملائ بالرمل وحمل إلى الشاطئ ، وعرضت عليه حياته ثلاث مرات إذا اعترف بمذهب خلقدونية فأبى ثلاث مرات ، فأغرق في البحر ( 1 ) . وهكذا أصبح قتل البطارقة علما يعرف به الروم . وبعد هذه الشدة التي دامت عشر سنين أصبح كل أمل في الصلح والسلام بين الفريقين محالا ، وقد علم المصريون بانتشار الإسلام وقيام العرب وفتحهم الشام ، فتمنوا الخلا ص مما هم فيه على أيدي المسلمين ، وظنوا أن قدومهم مصر إن هو إلا وباء أنزله الله لأعدائهم الروم الظالمين ( 2 ) . وإلى هذا الحد المحزن ساء حكم الروم في مصر فهيأوا بذلك للعرب الأسباب لفتح هذه الديار ، التي نقم أهلها على الحكم الرومي وودوا الخلاص منهم ، وبهذا أتيح لعمرو بن العاص فتح مصر بجيشه القليل . من هذا يعلم أن مصر كانت قد فقدت كل شخصية سياسية ، وأصبحت أبعد ما تكون من الاعتماد على نفسها ، أو محاولة التخلص من الأجنبي ، وإقامة حكومة وطنية ، وإنما كان كل ما ترجوه هو أن يغير عليها مغير آخر يطرد الظالم ويقوم مقامه . فسوء سيرة الروم ، وضعف المصريين كانا - كما سنرى - من أهم الأسباب التي سهلت على عمرو فتح مصر ، ولننظر كيف سلك عمرو سبيله إلى هذا الفتح .