ومن أخبار عمرو التي تدل على علمه وتعقله وبعده عن الأوهام أنه لما كان بالإسكندرية انكسف القمر فقال له رجل من القوم : لقد حدثنا شيطان هذه المدينة أن القمر سيكسف من الليلة . فقال رجل من الصحابة : كذب عدو الله هذا هم علموا ما في الأرض فأعلمهم ما في السماء ! فلم يرد عمرو عليه بذلك كثيرا ثم قال له : إنما الغيب خمسة فما سوى ذلك يعلمه قوم ويجهله آخرون . ثم قرأ الآية : ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) فانظر كيف دحض عمرو حجة الرجل بهذا الدليل النقلي الذي يدل على إلمامه بأسرار كتاب الله العزير ، فبز الصحابي ، وأقام الدليل على أن العقل إذا نما ونضج سهل عليه الاهتداء إلى معرفة أسرار الطبيعة والوصول إلى معرفة كثير من مكنونات الكون . والظاهر أن مماسة عمرو التجارة من صغره ، وكثرة أسفاره إلى الشام والحبشة ومصر وغيرها ، ومخالطته لأقوام مختلفين قد أكسبته فوائد جمة من معرفة أحوال هذه الأمم الاجتماعية والأدبية . مما كان له تأثير كبير في تثقيف عقله وسمو مداركه وأفاده فائدة تذكر . وسيظهر من سيرته أنه لم يكن تاجرا فحسب . بل كان شاعرا وسياسيا محنكا وقائدا ماهرا حتى عدوه من دهاة العرب وأبطالهم وذوي الرأي فيهم . والخلاصة أنه سوف يتجلى من استقصاء أخبار عمرو أنه قد أوتي من الشجاعة والإقدام وحسن البلاء ، وكذا العلم والحكمة والحزم والوفاء وثبات العزيمة والدهاء وغير ذلك من جليل الصفات مما لم يجتمع مثلها لمثله إلا في القليل النادر من مشاهير الرجال ، ممن أتم الله