إليه عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ! إن أهل هذا البلد يأتوننا بعصير لهم قد عصروه من العنب ، ثم يأتوننا به مطبوخا حلوا قبل أن يغلى كأنه الرب من شدة حلاوته ، قال عمر : قل لهم : فليأتونا بشئ منه حتى ننظر إليه . قال : فأتي بشئ منه في إناء من قوارير حتى وضع بين يديه ، قال : فشمه عمر رضي الله عنه ثم قال لأهل البلد : كيف تصنعون بهذا ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين ! نعصره في كرومنا ثم نصبه في القدور من ساعته فنطبخه أبدا حتى يذهب منه الثلثان ويبقى الثلث ، فقال عمر : إن كان هذا على ما وصفتم فقد ذهب حرامه وبقي حلاله ، قال : ثم أدخل عمر إصبعه فيه وذاقه ثم قال : هذا الذي لا شك في حله فاشربوا على بركة الله وكلوا منه ما دام حلوا ، فإذا علمتم أنه قد غلى فلا تشربوه . قال : ثم رفع عمر رضي الله عنه رأسه فجعل ينظر إلى القسيسين والرهبان واجتهادهم فيما هم فيه من العبادة وعليهم المسوح والبرانس ، فقال [1] : الحمد لله الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، قال : فسمعه بعض القسيسين قال : إن الله لا يضل أحدا ، قال : فلم يفهم عمر ما تكلم به ، فأعاد الكلام فقال : الحمد لله الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، فقال القس : إن الله لا يضل أحدا ، قال : فسمعه عمر فقال : يا عدو الله ! أما والله لولا العهد والميثاق الذي كتبته لكم إذا لضربت عنقك ! أتزعم أن الله لا يضل أحدا ؟ بلى ! قد أضلك وختم على قلبك وجعل على بصرك غشاوة ثم إنه يدخلك النار غير ظالم لك ، قال : فسكت القس ولم ينطق بشئ خوفا من عمر . قال : ثم نادى عمر رضي الله عنه في أصحابه بالرحيل على أن يرجع إلى المدينة ، ثم خرج وخرج معه أبو عبيدة وجماعة من المسلمين يشيعونه ، حتى إذا خرج من حدود الشام فأمرهم بالرجوع ، فرجعوا عنه . وسار عمر رضي الله عنه يريد المدينة ، فبينا هو كذلك إذ مر بماء من مياه العرب من بني جذام [2] يقال له ذات المنار [3] فنزل عمر هنالك ، فأقبل إليه أهل ذلك
[1] جاء قوله هذا خلال خطبة ألقاها بعد وصوله إلى الجابية . انظر فتوح الشام للازدي ص 252 وفتوح الشام للواقدي 1 / 238 وكان ذلك قبل اتمام صلح بيت المقدس . [2] عند الأزدي ص 262 ( يقال لهم حدس ) والخبر في فتوح الواقدي 1 / 237 وذكره لما سار عمر بن الخطاب من المدينة إلى الشام . [3] ذات المنار : موضع في أول أرض الشام من جهة الحجاز .