ارتفع الفسطاط ، فإذا أنا بسيدي مدرج في أكفانه فوضعته على نعشه ثم حملناه ، فصلى عليه المأمون وجميع من حضر ، ثم جئنا إلى موضع القبر فوجدتهم يضربون المعاول من فوق قبر هارون الرشيد ليجعلوه قبلة لقبره ، والمعاول تنبو . فقال : ويحك يا هرثمة ما ترى كيف تمتنع من حفر قبر له ؟ فقلت : لم يا أمير المؤمنين إنه قد أمرني أن أضرب معولا واحدا في قبلة قبر أبيك الرشيد لا أضرب غيره . قال : إذا ضربت يا هرثمة تكون ماذا ؟ فقلت : أخبرني أنه لا يجوز أن يكون قبر أبيك قبلة لقبره ، وأنني إذا ضربت هذا المعول الواحد يصير القبر محفورا من غير يد تحفره ويأتي ضريح في وسطه . قال المأمون : سبحان الله ما أعجب هذا الكلام ، ولا عجب من أمر أبي الحسن ، فاضرب حتى نرى . قال هرثمة : فأخذت المعول بيدي فضربت في قبلة قبر هارون ، قال : فانفرج القبر محفورا وان الضريح في وسطه قائم ، والناس ينظرون إليه قال : أنزله يا هرثمة . فقلت : يا سيدي أنه قد أمرني ألا أنزله حتى ينفجر من أرض هذا القبر ماء أبيض فيمتلئ به القبر مع وجه الأرض ، ثم تظهر فيه حوت بطول القبر ، فإذا غاب الحوت وغار الماء وضعته على جانب قبره وخليت بينه وبين ملحده . قال : فافعل يا هرثمة ما أمرت . وقال : فانتظرت حتى ظهر الماء والحوت ، وانتظرت الحوت حتى غاب وغار الماء ، والناس ينظرون ، ثم جعلت النعش إلى جانب القبر ، وتسجف من فوقه سجف أبيض لم أبسطه ، ثم انزل إلى القبر بغير يدي ولا أحد ممن حضر . فأشار المأمون إلى الناس أن هاتوا بأيديكم فاطرحوا فيه التراب فقلت : لا تفعل يا أمير المؤمنين . فقال : ويحك فيما يملأ ؟ فقلت : قد أمرني أن لا يطرح عليه التراب وأن القبر يمتلئ من نفسه ويطبق ويرتفع على وجه الأرض . قال : فأشار إلى الناس أن كفوا . قال : فرموا ما في أيديهم من التراب ، ثم امتلأ القبر وانطبق وتربع على وجه الأرض . وانصرف المأمون وانصرفنا . قال : فدعاني المأمون وأخلى مجلسه ، ثم قال : والله يا هرثمة لتصدقني بجميع