بطلبتك ، قد مثلت لك الدنيا به نفسك ، وبمصرعه مصرعك ، غداة لا ينفعك بكاؤك ، ولا يغني عنك أحباؤك [1] . ولم يسمع في مدح الدنيا أحسن من هذا المدح . وقال ( عليه السلام ) : ألا أن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ، ولهذه أبناء ولهذه أبناء ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا . ألا وكونوا الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة ، لأن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرضوا الدنيا قرضا . ألا ومن اشتاق إلى جنة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ، ومن راقب الخير سارع في الخيرات . ألا وأن لله عبادا كأنهم يرون أهل الجنة في الجنة منعمين مخلدين ، ويرون أهل النار في النار معذبين مخلدين ، قلوبهم مخمونة [2] ، وشرورهم مأمونة ، أنفسهم عفيفة وحاجاتهم خفيفة ، صبروا أياما قليلة فصارت العقبى لهم راحة طويلة . أما الليل فصافوا أقدامهم ، تجري دموعهم على خدودهم ، يجأرون إلى ربهم ، ويسعون في فكاك رقابهم من النار . وأما النهار فحلماء علماء ، بررة أتقياء ، كأنهم القداح ، قد براهم الخوف والعبادة ، ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى وما بالقوم من مرض ، أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار ومن فيها [3] . ودخل عليه رجل فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، كيف أصبحت يا أمير المؤمنين ؟ قال : أصبحت ضعيفا مذنبا : آكل رزقي وأنتظر أجلي . قال : فما تقول في الدنيا ؟ قال : أولها غم وآخرها موت ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، حلالها حساب ، وحرامها عقاب . قال : وأي الخلق أنعم ؟ قال : أجساد تحت التراب قد أمنت العقاب ،
[1] أمالي الطوسي : ج 2 ص 207 . [2] كذا في الأصل ، وفي نهج البلاغة : محزونة . [3] نهج البلاغة : ص 486 حكمة 104 وأولها : يا نوف طوبى للزاهدين .