الدنيا ، بل ربّما كانت معينة على اكتسابها ، لما نرى من المشتغلين تحمّل المشاقّ ، وسهر الليالي ، والتكرار آناء الليل وأطراف النهار ، والصبر على الغربة والأسفار ، كلّ ذلك لأجل الجاه الوهمي ، والتصدر الخيالي ، والتبسّط في البلاد ، والترفع على العباد . وأما علوم الآخرة فلا تحصل إلا برفض محبّة الدنيا عن القلب ، ومجانبة الهوى ، ولا تدرس إلا في مدرسة التقوى ، كما قال تعالى : واتّقوا الله ويعلَّمكم الله 2 : 282 [1] فجعل العلم ميراث التقوى والظاهر أنّ العلوم المتعارفة ميسّرة عن غير ذلك ، بل تحصل مع الحرص على الترفّعات الدنياويّة والرياسات الحيوانيّة ، والاهتمام بالشهرة عند الناس كما هو المرائي . وكيف كان فعلم مما ذكر الفصل والفرق بين علم الحقائق وسلوك طريق الآخرة وبين غيره من سائر العلوم المتعارفة ، وذلك من حيث إنّه لم يكشف هذه العلوم الأخروية إلا لأولي الألباب . وأولو الألباب حقيقة هم الزاهدون في الدنيا والراغبون في الآخرة . ولهذا قد أفتى بعض الفقهاء أنّه إذا أوصى رجل بماله لأعقل الناس ، فإنه يصرف إلى الزّهاد ، لأنّهم أعقل الخلق . والحاصل أنه من لا كشف له قلبا لا علم له حقيقة بالآخرة ، ونسبة البصيرة القلبيّة إلى مدركاتها كنسبة البصر الظاهري إلى مدركاته ، فكما أنّ للبصر نورا كلَّما يقع في ذلك النور فهو يدركه ، فكذا البصيرة نور كلَّما يقع فيه فهو يدركه ، ولا يدرك حقيقة هذا النور إلا من له نور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور 24 : 40 وهكذا إدراكات جميع الأنوار حتى نور الأنوار ، كلَّما ازدادت النفس نورية وشروقا ازدادت انبساطا فتقع فيها المعلومات أكثر . وهكذا يكون الحال في كلّ من له الميل إلى الكمال ، وله الاستعداد في ذلك ، وله الوسائل المعنوية والطرق الإلهيّة للازدياد .