أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك " فقال المنصور : واللّه لقد ميز عندي منازل من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة ، وانه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا [2] . أقول : إِن المنصور ما أراد النصيحة لما يصلحه ، ولو أراد صلاح نفسه لاعتزل الأمر لئلا يبوء بإثم هذه الأمّة ، ولكنه أراد أن يستصفي الصادق ويجعله من أتباعه ، فيعلم الناس أنه الإمام غير مدافع ، وتنقطع الشيعة عن مراجعة الصادق ، ويظهر لهم أنه تبع للمنصور ، والإمام لا يكون تبعاً لأرباب السلطان باختياره ، والصادق لا يخفى عليه قصد المنصور . وكلمته هذه تعطينا درساً بليغاً عن مواقف الناس مع الملوك والأمراء وعن منازل المتزلّفين إليهم ، وكيف يجب أن تكون مواقف رجال الدين معهم . واستقدمه المنصور مرّة وهو غضبان عليه ، فلمّا دخل عليه الصادق عليه السّلام ، قال له : يا جعفر قد علمت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال لأبيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام : لولا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك قولاً لا تمرّ بملأ إِلا أخذوا من تراب قدميك يستشفون به ، وقال علي عليه السّلام : يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي : محبّ غال ومبغض مفرط ، قال ذلك اعتذاراً منه أنه لا يرضى بما يقول فيه الغالي والمفرط ، ولعمري أن عيسى بن مريم عليه السّلام لو سكت عمّا قالت النصارى فيه لعذبه اللّه ، ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان ، وإمساكك عن ذلك ورضاك به سخط الديّان ، زعم أوغاد الحجاز ورعاع الناس أنك حبر الدهر وناموسه ، وحجّة المعبود وترجمانه ، وعيبة علمه وميزان قسطه ، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور ، وأن اللّه لا يقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملاً ، ولا يرفع له يوم القيامة وزناً ، فنسبوك إِلى غير حدّك ، وقالوا فيك ما ليس فيك ، فقل فإن أوّل من
[2] كشف الغمّة في أحوال الصادق عليه السلام عن تذكرة ابن حمدون : 2 / 208 .