بَيْنَ وَالِي الْحِسْبَةِ وَإِنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَطَوِّعِينَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ التِّسْعَةِ .وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ شُرُوطِ وَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَدْلًا ذَا رَأْيٍ وَصَرَامَةٍ وَخُشُونَةٍ فِي الدِّينِ وَعِلْمٍ بِالْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ .وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ فِيمَا يُنْكِرُهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ لِيَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ .وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَلَا يَقُودَهُمْ إلَى مَذْهَبِهِ لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ لِلْكَافَّةِ ، وَفِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ عَارِفًا بِالْمُنْكَرَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ( فَصْلٌ ) وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِسْبَةَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَأَحْكَامِ الْمَظَالِمِ ، فَأَمَّا مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَضَاءِ فَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَمَقْصُورَةٌ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَزَائِدَةٌ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي مُوَافَقَتِهَا لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ .فَأَحَدُهُمَا جَوَازُ الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ وَسَمَاعِهِ دَعْوَى الْمُسْتَعْدِي عَلَى الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى عُمُومِ الدَّعَاوَى ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الدَّعْوَى : أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَخْسٍ وَتَطْفِيفٍ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ .وَالثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِغِشٍّ أَوْ تَدْلِيسٍ فِي مَبِيعٍ أَوْ ثَمَنٍ .وَالثَّالِثُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَطْلٍ وَتَأْخِيرٍ لِدَيْنٍ مُسْتَحَقٍّ مَعَ الْمُكْنَةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ نَظَرُهُ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الدَّعَاوَى دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى لِتَعَلُّقِهَا بِمُنْكَرٍ ظَاهِرٍ هُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ وَاخْتِصَاصِهَا بِمَعْرُوفٍ بَيِّنٍ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى إقَامَتِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْحِسْبَةِ إلْزَامُ الْحُقُوقِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا ، وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ النَّاجِزِ وَالْفَصْلِ الْبَاتِّ ، فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ الْمُوَافَقَةِ .وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ لَهُ إلْزَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ الْحُقُوقِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي جَازَ لَهُ سَمَاعُ الدَّعْوَى فِيهَا ، وَإِذَا وَجَبَتْ بِاعْتِرَافٍ وَإِقْرَارٍ مَعَ تَمَكُّنِهِ وَإِيسَارِهِ فَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ الْمُوسِرَ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَدَفْعُهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا ؛ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ لَهَا مُنْكَرًا هُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ .