نَجِسٌ أَوْ غَيْرُ مُطَهِّرٍ ، وَهَذَا مَعَ تَغَيُّرِ الْأَمْوَاهِ فِي مَوَارِدِ التَّطْهِيرِ ، تَارَةً بِالطَّاهِرَاتِ ، وَتَارَةً بِالنَّجَاسَاتِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُخَالَطَةُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ أَسْبَابِ التَّغْيِيرِ لَا تُؤَثِّرُ فِي مَحَلِّ عَمَلِنَا وَانْتِفَاعِنَا ، فَمَا ظَنُّك بِالْجِسْمِ الْمُفْرَدِ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ ، فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ لُبَابُ الْفِقْهِ .الْوَجْهُ الثَّالِثُ عَنْ أَصْلِ الدَّلِيلِ : أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ ، فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَحَالَ وَتَبَدَّلَ .وَقَوْلُهُمْ : الِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ .قُلْنَا : مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الْفَتْوَى الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِجْمَاعِ ؟فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا وَتَحْوِيلِهَا خَلّاً طَهُرَتْ ، وَكَذَلِكَ تَحْوِيلُ الدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ ، بَلْ أَقُولُ الِاسْتِقْرَاءُ دَلَّنَا أَنَّ كُلَّ مَا بَدَأَ اللَّهُ بِتَحْوِيلِهِ وَتَبْدِيلِهِ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ ، مِثْلُ : جَعْلِ الْخَمْرِ خَلّاً ، وَالدَّمِ مَنِيّاً ، وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً ، وَلَحْمِ الْجَلَّالَةِ الْخَبِيثِ طَيِّباً ، وَكَذَلِكَ بَيْضُهَا وَلَبَنُهَا ، وَالزَّرْعُ الْمُسْتَسْقَى بِالنَّجِسِ إذَا سُقِيَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَزُولُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ ، وَيَزُولُ حَقِيقَةُ الْجِنْسِ وَاسْمِهِ التَّابِعِ لِلْحَقِيقَةِ ، وَهَذَا ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ فِي الْأَرْضِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحَوِّلُهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ، وَيُبَدِّلُهَا خَلْقاً بَعْدَ خَلْقٍ ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَوَادِّهَا وَعَنَاصِرِهَا .وَأَمَّا مَا اسْتَحَالَ بِسَبَبِ كَسْبِ الْإِنْسَانِ : كَإِحْرَاقِ الرَّوْثِ حَتَّى يَصِيرَ رَمَاداً ، وَوَضْعِ الْخِنْزِيرِ فِي الْمَلَّاحَةِ حَتَّى يَصِيرَ مِلْحاً ، فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ .وَلِلْقَوْلِ بِالتَّطْهِيرِ اتِّجَاهٌ وَظُهُورٌ ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .الدَّلِيلُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَنِيَّ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ فِي خَلْقِهِ ، فَإِنَّهُ غَلِيظٌ ، وَتِلْكَ رَقِيقَةٌ ، وَفِي لَوْنِهِ فَإِنَّهُ أَبْيَضُ شَدِيدُ الْبَيَاضِ ، وَفِي رِيحِهِ فَإِنَّهُ طَيِّبٌ كَرَائِحَةِ الطَّلْعِ ، وَتِلْكَ خَبِيثَةٌ ، ثُمَّ جَعَلَهُ اللَّهُ أَصْلاً لِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ ، وَالْإِنْسَانُ الْمُكْرَمُ ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُهُ نَجِساً ؟.وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَقَدْ نَاظَرَ بَعْضَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ ، لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ : مَا بَالُك وَبَالُ هَذَا ؟قَالَ : أُرِيدَ أَنْ أَجْعَلَ أَصْلَهُ طَاهِراً ، وَهُوَ يَأْبَى إلَّا أَنْ يَكُونَ نَجِساً .ثُمَّ لَيْسَ شَأْنُهُ شَأْنَ الْفُضُولِ ، بَلْ شَأْنُ مَا هُوَ غِذَاءٌ وَمَادَّةٌ فِي الْأَبْدَانِ ، إذْ هُوَ قِوَامُ النَّسْلِ ، فَهُوَ بِالْأُصُولِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْفَضْلِ .