وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْخَمْرِ أَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَالَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ طَيِّبِ الْأَبْدَانِ .وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهَا دَاءُ النُّفُوسِ ، وَالْقُلُوبِ ، وَالْعُقُولِ ، وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَالنَّفْسِ ، وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَلِكُ الْمَطْلُوبُ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ ، وَإِنَّمَا الْبَدَنُ آلَةٌ لَهُ ، وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ ، مُطِيعٌ لَهُ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهَا ، فَإِذَا صَلُحَ الْقَلْبُ صَلُحَ الْبَدَنُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَ [ الْقَلْبُ فَسَدَ ] الْبَدَنُ كُلُّهُ .فَالْخَمْرُ هِيَ دَاءٌ ، وَمَرَضٌ لِلْقَلْبِ ، مُفْسِدٌ لَهُ ، مُضَعْضِعٌ لِأَفْضَلِ خَوَاصِّهِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، فَتَصِيرُ دَاءً لِلْبَدَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهَا دَاءً لِلْقَلْبِ ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْرُوقَةِ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا صَلُحَ عَلَيْهَا الْبَدَنُ ، وَنَبَتَ ، وَسَمِنَ ، لَكِنْ يَفْسُدُ عَلَيْهَا الْقَلْبُ فَيَفْسُدُ الْبَدَنُ بِفَسَادِهِ ، وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ الَّتِي فِيهَا ، فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَدَنِ فَقَطْ ، وَنَفْعُهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ ، فَهِيَ وَإِنْ أَصْلَحَتْ شَيْئاً يَسِيراً فَهِيَ فِي جَنْبِ مَا تُفْسِدُهُ كَلَا إصْلَاحٍ ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } .فَهَذَا لَعَمْرِي شَأْنُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ ، فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْقُوَّةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ الْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ ، تَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً .عَلَى أَنَّا وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ، فَإِنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا نَظُنُّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ ، فَافْهَمْ هَذَا ، فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَسِرُّهَا ، وَأَمَّا إقْضَاؤُهُ إلَى اعْتِصَارِهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اعْتِصَارُهَا ، وَإِنَّمَا الْقَوْلُ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً أَنَّ هَذَا مُنْتَقَضٌ بِإِطْفَاءِ الْحَرْقِ بِهَا ، وَدَفْعِ الْغُصَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا .