التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَقَدْ أَبْعَدَ غَايَةَ الْإِبْعَادِ ، وَأَتَى بِشَيْءٍ قَدْ يُسْتَيْقَنُ بُطْلَانُهُ لِوُجُوهٍ .أَحَدُهَا : أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَوَّلَ مَا شُرِعَتْ كَانَتْ أَخْفَى ، وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ ، وَتَنَاقُلِ الْعِلْمِ ، وَإِفْشَائِهِ صَارَتْ أَبْدَى وَأَظْهَرَ ، وَإِذَا كُنَّا إلَى الْيَوْمِ لَمْ يَسْتَبِنْ لَنَا نَجَاسَتُهَا ، بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى طَهَارَتِهَا ، وَعَامَّةُ التَّابِعِينَ عَلَيْهِ .بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ : إنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يُنَجِّسُونَهَا وَلَا يَتَّقُونَهَا ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ : وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ ، وَالْخِلَافِ ، وَقَدْ ذَكَرَ طَهَارَةَ الْأَبْوَالِ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ ، ثُمَّ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْأَبْوَالُ كُلُّهَا نَجَسٌ .قَالَ : وَلَا نَعْلَمُ أَحَداً قَالَ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ إنَّ أَبْوَالَ الْأَنْعَامِ وَأَبْعَارِهَا نَجَسٌ .قُلْت : وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَوْلِ النَّاقَةِ ، فَقَالَ : اغْسِلْ مَا أَصَابَك مِنْهُ ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ فِيمَا يُصِيبُ الرَّاعِيَ مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ قَالَ : يُنْضَحُ ، وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي بَوْلِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ : يُغْسَلُ .وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ نَجَاسَةُ ذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِيهِ ، فَلَعَلَّ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِ قَلِيلِ الْبَوْلِ ، وَالرَّوْثِ وَكَثِيرِهِ ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ بِغَسْلِهِ كَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْمُخَاطِ ، وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مَكَان فِيهِ رَوْثُ الدَّوَابِّ ، وَالصَّحْرَاءُ أَمَامَهُ ، وَقَالَ : هَهُنَا وَهَهُنَا سَوَاءٌ ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : لَا بَأْسَ بِبَوْلِ كُلِّ ذِي كِرْشٍ .وَلَسْت أَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا ، بَلْ الْقَوْلُ بِطَهَارَتِهَا إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنْ كَانَ أَرَادَ النَّجَاسَةَ .فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُوماً لِأُولَئِكَ ؟.وَثَانِيهَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِساً ، فَوُجُوبُ التَّطَهُّرِ مِنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ