* وهي الّتي ارتجلها عند مروره ( عليه السلام ) على جماعة يتذاكرون بينهم في أنّ أيّ الحروف الهجائيّة أكثر استعمالا في كلام المتكلّمين ، إلى أن اتّفقت آراؤهم على كونها حرف " الألف " وأنّها لا يُستغنى عنها في شيء من الخُطب والكلمات ، فوقف عليهم الإمام ( عليه السلام ) وأنشأ مرتجلا هذه الخطبة ، وقال : حمدتُ من عظمت منّته ، وسبغت نعمته ، وسبقت رحمتُه غضبه ، وتمّت كلمتُه ، ونفذت مشيئتُه ، وبلغت حجّته ، وعدلت قضيّته ، حَمِدتُه حمدَ مقرٍّ بربُوبيّته ، متخضّع لعبوديّته ، متنصّل من خطيئته ، معترف بتوحيده ، مستعيذ من وعيده ، مؤمّل من ربّه رحمة تنجيه يوم يُشغَل كلٌّ عن فصيلته وبنيه ، ونستعينه ونسترشده ، ونستهديه ، ونؤمن به ونتوكّل عليه ، وشهدت له شهود عبد مخلص موقن ، وفرّدتُه تفريدَ مؤمن متيقّن ، ووحّدتُه توحيدَ عبد مذعن ، ليس له شريكٌ في ملكه ، ولم يكن له وليّ في صُنعه ، جَلّ عن مشير ووزير ، وتنزّه عن مثل ونظير . عَلِم فستر ، وبَطَن فخبر ، وملكَ فقهرَ ، وعُصي فَغَفرَ ، وعُبد فشكرَ ، وحكم فعدلَ ، وتكرّم وتفضّل ، لن يزول ولم يزل ، ليس كمثله شيء ، وهو قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء ، ربٌّ متفرّدٌ بعزّته ، متملّك بقدرته ، متقدّسٌ بعلوّه ، متكبّر بسموّه ، ليس يُدركُه بصر ، ولم يُحط به نظر ، قويٌّ منيعٌ ، بصيرٌ سميعٌ ، حليم حكيمٌ ، رؤوفٌ رحيمٌ ، عَجَزَ عن وصفه من وَصَفه ، وضلّ عن نعته من عَرَفه ، قرُبَ فبعُد ، وبَعُدَ فقرُبَ ، يُجيبُ دعوةَ من يدعوه ، ويرزُق عبده ويَحبُوه ، ذو لطف خفيّ ، وبطش قويّ ، ورحمة مُوسعة ، وعقوبة موجعة ، رحمته جنّةٌ عريضةٌ مونقةٌ ، وعقوبته جحيمٌ ممدودةٌ موبقةٌ . وشهدتُ ببعث محمّد رسولِهِ وعبدِه ، وصفيّه ونبيّه ، ونجيبه وحبيبه وخليله ، بعثه في خير عصر ، و [ حين ] فترة [ و ] كفر ، رحمةً لعبيده ، ومنّةً لمزيده ، ختم به نبوّته ، وشيّد به حجّته ، فوعظ و نصح ، وبلغ وكدح ، رؤوفٌ بكلّ مؤمن ، رحيمٌ سخيٌّ رضيٌّ وليٌّ زكيٌّ ، عليه رحمةٌ وتسليمٌ وبركةٌ وتكريم ، من ربٍّ غفور رحيم ، قريب مجيب حليم . وصّيتكم ونفسي معشر من حضرني بوصيّةِ ربّكم ، وذكّرتُكم بسنّة نبيّكم ، فعليكم برهبة تسكنُ قلوبَكم ، وخشية تُذري دموعكم ، وتقيّة تنجيكم قبل يوم يُبليكم ويذهِلكم ، يوم يفوزُ فيه من ثقل وزنُ حسنته وخفّ وزن سيّئته ، ولتكن مسألتكم وتملّقكم مسألة ذلٍّ وخضوع ، وشكر وخشوع ، بتوبة ونزوع ، وندم ورجوع . وليغتنم كلّ مغتنم منكم صحّته قبل سُقمه ، وشيبته قبل هرمه ، وسعته قبل فقره ، وفرغته قبل شُغله ، وحضره قبل سفره ، وحياته قبل موته ، ونشطه قبل يكبر ويهرم ، وقوّته قبل يمرض ويسقم ، يملّه طبيبه ويعرض عنه حبيبه ، وينقطع عمره ، ويتغيّر عقلُه ، ثمّ قيل : هو موعوكٌ ، وجسمه منهوكٌ ، ثمّ جدّ في نزع شديد ، وحضره كلّ قريب وبعيد ، فشخص بصره ، وطمح نظره ، ورشح جبينه ، وعطف [ 1 ] عرينه ، وسكن حنينه ، وحزنته نفسه ، وبكته عِرسُه ، وحضر [ 2 ] رمسُه ، ويُتمُّ منه ولده ، وتفرّق [ عنه ] [ 3 ] عددُه ، وقُسم جمعه ، وذهب بصره وسمعه ، ومُدّد وجُرّد وعُري وغسل ونشف وسجّي وبُسط له ، وهيّئ ، ونُشر عليه كفنه ، وشدّ منه ذقنه ، وقُمّص وعُمّم وودع وسُلّم وحمل فوق سريره ، وصُلّي عليه بتكبير بغير سجود وتعفير ، ونقل من دور مزخرفة ، وقصور مشيّدة ، وحجر منجّدة ، وجُعل في ضريح ملحود ، وضيق مرصود بلبن منضود ، مسقّف بجلمود ، [ و ] [ 4 ] هيل عليه حفره [ 5 ] وحُثِيَ عليه مدرُه وتحقّق حذرهُ ، ونُسي خبره ، ورجع عنه وليّه وصفيّه ونديمه ونسيبه وحميمه ، وتبدّل به قرينه وحبيبه ، فهو حشو قبر ورهين قفر ، يسعى بجسمه دودُ قبره ، ويسيلُ صديدُه من منخرِه ، تسحقُ تربته لحمه ، وينشف دمه ، ويرمّ عظمه ، حتّى يوم حشره ، فنشر من قبره حين يُنفخُ في صُور ، ويقوم لحشر ونشور ، فثمّ بُعثرت قُبور ، وحُصّلت سريرة صدور وجئ بكلّ نبيٍّ وصدّيق وشهيد ( يوحّد للفصل عليمٌ قديرٌ ) [ 6 ] وبعبده خبير بصير ، فكم من زفرة تفنيه ، وحسرة تقضيه [ 7 ] في موقف مهيل ، ومشهد جليل ، بين يدي ملك عظيم ، وبكلّ صغير وكبير عليمٌ ، فحينئذ يلجمه عرقه ، ويحضره قلقه ، عبرته غير مرحومة ، وصرخته غير مسموعة ، وحجّته غير مقبولة ( تزول جريدته وتنشر صحيفته ) [ 8 ] ينظر في سوء عمله ، وشهدت عليه عينه بنظره ، ويده ببطشه ، ورجله بخطوه ، وفرجه بلمسه ، وجلده بمسّه ، فسُلسلَ جيده ، وغُلّت يده ، وسيق فسحب وحده ، وورد جهنّم بكرب وشدّة ، فظلّ يُعذّب في جحيم ، ويسقى شربةً من حميم ، تشوي وجهه ، وتسلخ جلده ، وتضربه زبنية بمقمع من حديد ، ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد ، يستغيث فتعرض عنه خزنةُ جهنّم ، ويستصرخ فيلبث حقبةً يندم ، نعوذ بربٍّ قدير ، من شر كلّ مصير ، ونسأله عفو من رضي عنه ، ومغفرة من قبله ، فهو وليّ مسألتي ومنجح طلبتي . ومن زحزح عن تعذيب ربّه جعل في جنّته بقربه ، وخلد في قصور مشيّدة ، وملك بحور عين وحفدة ، وطيف عليه بكؤوس ، وسكن حظيرة قدس ، وتقلّب في نعيم ، وسقي من تسنيم ، وشرب من عين سلسبيل ، ومزج له بزنجبيل ، مختّم بمسك وعنبر ، مستديم للملك [ 9 ] مستشعر للسرور ، يشرب من خمور في روض مغدّق ، ليس يصدّع من شربه ، وليس يُنزف . هذه منزلة من خشي ربّه ، وحذّر نفسه ، وتلك عقوبة من جحد مشيئته ، وسوّلت له نفسه معصيته . فهو قولٌ فصلٌ ، وحكمٌ عدلٌ ، وخير قصص قصّ ، ووعظ نصّ ، تنزيل من حكيم حميد ، نزل به روح قدس مبين ، على قلب نبيٍّ مهتد رشيد ، صلّت عليه رسل سفرة ، مكرّمون بررة . عُذتُ بربّ عليم رحيم كريم من شرّ كلّ عدوٍّ لعين رجيم ، فليتضرّع متضرّعكم ، وليبتهل مبتهلكم ، وليستغفر كلّ مربوب منكم لي ولكم ، وحسبي ربّي وحده [ 10 ] . وأمّا خطبته الارتجاليّة الخالية من الحروف المنقّطة فقوله ( عليه السلام ) : الحمد لله الملك المحمود ، المالك الودود ، مصوّر كلّ مولود ، ومئال كلّ مطرود ، ساطح المهاد ، وموطّد [ 11 ] الأوطاد ، ومرسل الأمطار ، ومسهّل الأوطار [ 12 ] عالم الأسرار ومدركها ، ومدمّر الأملاك ومهلكها ، ومكوّر الدهور ومكرّرها ، ومورد الأُمور ومصدرها ، عمّ سماحه [ 13 ] وكمل ركامه [ 14 ] وهمل [ 15 ] وطاوع السؤال والأمل ، وأوسع الرمل وأرمل ، أحمده حمداً ممدوداً مداه ، وأُوحّده كما وحّد الأوّاه [ 16 ] وهو الله لا إله للأُمم سواه ، ولا صادع لما عدّله وسوّاه . أرسل محمّداً علماً للإسلام ، وإماماً للحكّام ، مسدّداً للرعاع ، ومعطّل أحكام ودّ وسواع [ 17 ] أعلم وعلم ، وحكم وأحكم ، وأصّل الأُصول ، ومهّد وأكّد الوعود وأوعد . أوصل الله له الإكرام ، وأودع روحه السلام ، ورحم آله وأهله الكرام ما لمع لامع وسطع ساطع وطلع هلال ، وسمع اهلال . اعملوا - رعاكم الله - أصلحَ الأعمال ، واسلكوا مسالك الحلال ، واطرحوا الحرام ودعوه ، واسمعوا أمر الله ووعوه ، وصلوا الأرحام وراعوها ، واعصوا الأهواء واردعوها [ 18 ] وصاهروا أهل الصلاح والورع ، وصارموا رهط اللهو والطمع ، ومصاهركم أطهر الأحرار مولداً ، وأسراهم سؤدداً ، وأحلاهم مورداً - إلى قوله ( عليه السلام ) - : أسأل الله لكم دوام أسعاده ، وألهم كلاّ إصلاح حاله ، والإعداد لمآله ومعاده ، وله الحمد السرمد ، والمدح لرسوله أحمد [ 19 ] . [ 1 ] في بحار الأنوار وكنز العمّال : خطفت . [ 2 ] كذا في البحار ، وفي شرح النهج : حُفِر . [ 3 و 4 ] أضفناهما من بحار الأنوار وكنز العمّال . [ 5 ] في بحار الأنوار : عفره . [ 6 ] بدل ما بين القوسين في بحارالأنوار : وقعد لفصل حكمه قدير . [ 7 ] في بحار الأنوار : تضنيه . [ 8 ] بدل ما بين القوسين في بحار الأنوار : برزت صحيفته ، وتبيّنت جريدته . [ 9 ] في بحار الأنوار : للحبور . [ 10 ] شرح نهج البلاغة ( لابن أبي الحديد ) 19 : 141 ، كنز العمّال 16 : 208 / 44234 ، بحار الأنوار 74 : 340 . [ 11 ] وطد الشيء : أثبته وثقّله ، انظر لسان العرب 3 : 461 . [ 12 ] الأوطار : الحاجات ، المصباح المنير 2 : 663 ( وطر ) . [ 13 ] سماحه : جوده ، عطاؤه ، المصباح المنير 1 : 288 ( سمح ) . [ 14 ] الركام : السحاب المتراكم بعضه فوق بعض ، النهاية ( لابن الأثير ) 2 : 260 ( ركم ) . [ 15 ] هملت السماء : دام مطرها مع سكون وضعف ، لسان العرب 11 : 710 ( همل ) . [ 16 ] الأوّاه : كثير الدعاء والبكاء ، النهاية ( ابن الأثير ) 1 : 82 ( أوه ) . [ 17 ] وُدّ وسواع : اسمان لصنمين كانا لقوم نوح ( عليه السلام ) . [ 18 ] اردعوها : كفّوها وردّوها ، الصحاح 3 : 1218 . [ 19 ] خطبتان للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : 36 ، علي محمّد علي دخيل .