لارتفاع مستوى الخبرة التجريبية وتعميقها على مر الزمن ، كان من الطبيعي لها ان ترفض كل مطلق فلسفي فوق العلم . وقد نشأ هذا من خطأ الماركسية في نظرية المعرفة وإيمانها بالتجربة وحدها ، وأما في ضوء المذهب العقلي والايمان بمعارف قبلية فالفلسفة ترتكز على قواعد أساسية ثابتة وهي تلك المعارف العقلية القبلية الثابتة بصورة مطلقة ومستقلة عن التجربة ، ولأجل ذلك لا يكون من الحتم ان يتغير المحتوى الفلسفي باستمرار تبعاً للاكتشافات التجريبية . ونحن لا نعني بذلك انقطاع الصلة بين الفلسفة والعلم فان الترابط بينهما وثيق لأن العلم يقدم في بعض الأحايين الحقائق الخاصة إلى الفلسفة لتطبق عليها مبادئها المطلقة فتخرج بنتائج فلسفية جديدة [1] . كما أن الفلسفة تنجد الأسلوب التجريبي في العلوم بمبادئ وقواعد عقلية يستخدمها العالم في سبيل الارتقاء من التجارب المباشرة إلى قانون علمي عام [2] . فالعلاقة بين الفلسفة والعلم قوية [3] ، غير ان الفلسفة بالرغم من ذلك قد لا تحتاج في بعض
[1] ومثال ذلك ان العلوم الطبيعية تبرهن على امكان تحويل العناصر البسيطة بعضها إلى بعض . فهذه حقيقة علمية تتناولها الفلسفة كمادة لبحثها وتطبق عليها القانون العقلي القائل بان الوصف الذاتي لا يتخلف عن الشيء فنستنتج أن صورة العنصر البسيط كالصورة الذهبية ليست ذاتية لمادة الذهب والا لما زالت عنها وانما هي صفة عارضة . ثم تمضي الفلسفة أكثر من ذلك فتطبق القانون القائل ان لكل صفة عارضة علة خارجية فتصل إلى هذه النتيجة ان المادة لكي تكون ذهبا أو نحاسا أو شيئا آخر بحاجة إلى سبب خارجي فهذه نتيجة فلسفية مستندة إلى ما أدت اليه الطريقة العقلية من قواعد عامة لدى تطبيقها على المادة الخام التي قدمتها العلوم للفلسفة . [2] كما ضربنا الأمثلة على ذلك آنفا فقد رأينا كيف ان النظرية العلمية القائلة ان الحركة هي سبب الحرارة أو جوهرها تطلبت عدة من المبادئ العقلية القبلية . [3] حتى يمكن القول في ضوء ما قررناه - خلافا للاتجاه العام الذي واكبناه في الكتاب - بعدم وجود حدود فاصلة بين قوانين الفلسفة وقوانين العلم كالحد الفاصل القائل ان كل قانون قائم على أساس عقلي فهو فلسفي وكل قانون قائم على أساس تجريبي فهو علمي ، لأننا عرفنا بوضوح ان الأساس العقلي والتجربة مزدوجان في عدة من القضايا الفلسفية والعلمية فلا القانون العلمي وليد التجربة بمفردها ، وانما هو نتيجة تطبيق الأسس العقلية على مضمون التجربة العلمية ، ولا القانون الفلسفي في غنى عن التجربة دائما ، بل قد تكون التجربة العلمية مادة للبحث الفلسفي أو صغرى في القياس على حد تعبير المنطق الأرسطي ، وانما الفارق بين الفلسفة والعلم ان الفلسفة قد لا تحتاج إلى صغرى تجريبية ولا تفتقر إلى مادة خام تستعيرها من التجربة كما سنشير اليه بعد لحظة ، واما العلم فهو من كل قوانينه بحاجة إلى الخبرة الحسية المنظمة .