هذين الفعلين منعكسان بسيطان ، والغريزة منعكس مركب . وهذا التفسير الآلي للغريزة لا يمكن الأخذ به ، لدلائل متعددة يضيق المجال عن الإفاضة فيها . فمنها ان الحركة المنعكسة آليا انما تثار بسبب خارجي ، كما في انكماشة العين التي تثيرها شدة الضوء ، مع ان بعض الأعمال الغريزية ليس لها مثير خارجي . فأي مثير يجعل الحيوان منذ يوجد يفتش عن غذائه ، ويجهد في سبيل الحصول عليه ؟ أضف إلى ذلك أن الأعمال المنعكسة آليا ، ليس فيها موضع لادراك وشعور ، مع أن مراقبة الأعمال الغريزية ، تزودنا بالشواهد القاطعة على مدى الادراك والشعور فيها . فمن تلك الشواهد تجربة أجريت على سلوك زنبار ، يبني عشه من عدد من الخلايا ، إذ كان ينتظر القائم بالتجربة ، أن يتم الزنبار عمله في خلية ما ، فيخدشها بدبوس ، فإذا أتى الزنبار لعمل الخلية التالية ووجد ان الانسان قد أفسد عليه عمله ، عاد اليه فأصلحه ، ثم سار في عمل الخلية التالية ، وكرر المجرب تجربته هذه عددا من المرات ، أيقن بعدها ان تتابع اجراء السلوك الغريزي ، ليس تتابعا آليا ، ولاحظ المجرب ان الزنبار عندما يعود ويرى ان الخلية - التي تمت - قد أصابها التلف ، يقوم بحركات ، ويخرج أصواتا تدل على ما يشعر به من غضب وضيق . وبعد سقوط هذه النظرية المادية ، يبقى تفسيران للغريزة ، أحدهما ان العمل الغريزي يصدر عن قصد وشعور ، غير ان غرض الحيوان ليس ما ينتج عنه من فوائد دقيقة ، بل الالتذاذ المباشر به ، بمعنى ان الحيوان ركب تركيبا يجعله يلتذ من القيام بتلك الاعمال الغريزية ، في نفس الوقت الذي تؤدي له أعظم الفوائد والمنافع ، والتفسير الآخر ، ان الغريزة الهام غيبي الهي ، بطريقة غامضة ، زود به الحيوان ، ليعوض عما فقده من ذكاء وعقل . وسواء أصح هذا أم ذاك ، فدلائل القصد والتدبير واضحة وبدهية ، في الوجدان البشري ، والا فكيف حصل هذا التطابق الكامل ، بين الاعمال الغريزية وأدق المصالح وأخفاها على الحيوان ؟ إلى هنا نقف ، لا لأن دلائل العلم على المسألة الإلهية قد استنفدت - وهي لا تستنفد في مجلدات ضخام - بل حفاظا على طريقتنا في الكتاب .