الاختلاف عن مفهومها الواقعي الآنف الذكر ، وابتعد بذلك عن الميدان الأساسي للصراع بين فلسفة اليقين ، وفلسفات الشك والانكار . فمن تلك التطويرات الحديثة التي طرأت على الحقيقة ، تطوير النسبية الذاتية الذي شاء ان يضع للفظ الحقيقة مفهوما جديدا . فاعتبر الحقيقة عبارة عن الادراك الذي يتفق مع طبيعة الجهاز العصبي وشروط الادراك فيه . وقد مر حديثنا عن النسبية الذاتية ، وقلنا ان اعطاء الحقيقة هذا المفهوم ، يعني أنها ليست أكثر من تعبير عن شيء ذاتي ، فلا تصبح الحقيقة حقيقة الا من ناحية اسمية فقط . وبذلك تفقد الحقيقة في المفهوم النسبي الذاتي صفتها كموضوع للنزاع والصراع الفلسفي ، بين اتجاهات اليقين والشك والانكار في الفلسفة . فالنسبية الذاتية مذهب من مذاهب الشك يتبرقع بستار من الحقيقة . وهناك تفسير فلسفي آخر للحقيقة ، وهو الذي يقدمه لنا ( وليم جيمس ) في مذهبه الجديد في المعرفة الانسانية ( البراجماتزم أو مذهب الذرائع ) . وليس هذا التفسير بأدنى إلى الواقعية أو أبعد عن فلسفات الشك والانكار من التفسير السابق . الذي حاولته النسبية الذاتية . ويتلخص مذهب ( البراجماتزم ) في تقديم مقياس جديد ، لوزن الأفكار والفصل فيها بين الحق والباطل وهو مقدرة الفكرة المعينة على انجاز اغراض الانسان في حياته العملية . فان تضاربت الآراء وتعارضت ، كان أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها ، أي ذلك الذي تنهض التجربة العملية دليلا على فائدته . والأفكار التي لا تحقق قيمة عملية ولا يوجد لها آثار نافعة فيما تصادف من تجارب الحياة ، فليست من الحقيقة بشيء ، بل يجب اعتبارها الفاظا جوفاء لا تحمل من المعنى شيئا . فمرد الحقائق جميعا في هذا المذهب إلى حقيقة عليا في الوجود ، وهي الاحتفاظ بالبقاء أولا ، ثم الارتفاع بالحياة نحو الكمال ثانيا . فكل فكرة يمكن استعمالها كأداة للوصول إلى تلك الحقيقة العليا فهي حق صريح وحقيقة يجب تصديقها ، وكل فكرة لا تصنع شيئا في هذا المضمار فلا يصح الاخذ بها . وعلى هذا الأساس عرف ( برغسون [1] ) الحقيقة بأنها اختراع شيء جديد ،
[1] برغسون : حياته ، فلسفته ، منتخبات - سلسلة : زدني علما رقم 25 - منشورات عويدات