ينافي إفاضته تعالى بعض علومه الغيبيّة لعباده الصالحين لمصلحة وحكمة تقتضي ذلك . وبلغة الاصطلاح المنطقي : إنّ الآيات التي تثبت انحصار علم الغيب بالله تعالى إنّما تثبت ذلك بنحو الموجبة الكلّية ، وأنّه لا أحد له علمٌ بذلك ، وهذا الحصر لا ينتقض بما ذكره القرآن لبعض عباده لأنّه علم بنحو الموجبة الجزئيّة . إذن : الآيات تنفي علم الغيب المطلق لا مطلق الغيب ، وبذلك يظهر أنّه لا تنافي بين الأدلّة الدالّة على انحصار علم الغيب به تعالى وبين غيرها من الأدلّة التي تثبت علم الغيب للأنبياء والأوصياء . ولعلّ من أقوى الشواهد التي بيّنت هذه الحقيقة ما ورد في قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ) ( الجن : 26 ) ، فالآية واضحة الدلالة أنّ كلّ غيبه لا يطّلع عليه أحد من عباده ، فهي بصدد نفي أن يحصل لأحد من عباده المرسلين علمٌ بالغيب بنحو الموجبة الكلّية . قال الطباطبائي : « والمعنى هو عالم كلّ غيب علماً يختصّ به فلا يطلع على الغيب - وهو مختصّ به - أحداً من الناس ، فالمفاد سلب كلّي ، وإن أصرَّ بعضهم على كونه سلباً جزئيّاً . محصّل معناه : لا يظهر على كلّ غيبه أحداً ، ويؤيّد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات » [1] . وقال الآلوسي : « إنّ اسم الجنس - أعني الذي يقع على القليل والكثير بلفظ واحد - إذا استعمل ولم تقم قرينة تخصّصه ببعض ما يصدق عليه ، فهو في الظاهر لاستغراق الجنس آخذاً من استقراء كلامهم . والغيب اسم جنس يقع على القليل والكثير بلفظ واحد ، ولا يضرّ في ذلك جمعه على
[1] الميزان في تفسير القرآن ، مصدر سابق : ج 20 ص 53 .