أمّا العلوم النظريّة ( البديهيّة ) فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب ، مثل تصوّرنا الألم واللذّة والوجود والعدم ، ومثل تصديقنا بأنّ النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأنّ الواحد نصف الاثنين . أمّا العلوم الكسبيّة فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداءً بل لا بدّ من طريق يُتوصّل به إلى اكتساب تلك العلوم ، وهذا الطريق على قسمين : أحدهما : أن يتكلّف الإنسان تركّب تلك العلوم البديهيّة النظريّة ، حتّى يتوصّل بتركّبها إلى استعلام المجهولات . وهذا الطريق هو المسمّى بالنظر والتفكّر والتدبّر والتأمّل والتروّي والاستدلال ، وهذا النوع من تحصيل العلوم هو الطريق الذي لا يتمّ إلاّ بالجهد والطلب . والنوع الثاني : أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات والمجاهدات في أن تصير القوى الحسّية والخياليّة ضعيفة ، فإذا ضعفت قويت القوّة العقليّة وأشرقت الأنوار الإلهيّة في جوهر العقل ، وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكّر والتأمّل ، وهذا هو المسمّى بالعلوم اللدنيّة . إذا عرفت هذا فنقول : جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهيّة ، فقد تكون النفس نفساً مشرقة نورانيّة إلهيّة علويّة قليلة التعلّق بالجواذب البدنيّة والنوازع الجسمانيّة ، فلا جرم كانت أبداً شديدة الاستعداد لقبول الجلايا القدسيّة والأنوار الإلهيّة ، فلا جرم فاضت عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام ، وهذا هو المراد بالعلم اللدنّي » [1] . وفي الحقيقة أنّ العلم الحاصل للإنسان تارةً تتوسّط فيه الأسباب
[1] التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب ، مصدر سابق : ج 21 ص 127 .