- على ما يعطيه مفاد الآية - أنّه رفيع القدر والمنزلة من أن تناله العقول ، وبكونه « حكيماً » أنّه هناك محكم غير مفصّل ولا مجزّأ إلى سور وآيات وجمل وكلمات ، كما هو كذلك بعد جعله قرآناً عربيّاً وهو المستفاد من قوله : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود : 1 ) . وهذان النعتان ; أعني كونه « عليّاً حكيماً » هما الموجبان لكونه وراء العقول البشريّة فإنّ العقل في فكرته لا ينال إلاّ ما كان من قبيل المفاهيم والألفاظ أوّلاً ، وكان مؤلّفاً من مقدّمات تصديقيّة يترتّب بعضها على بعض كما في الآيات والجمل القرآنية ، وأمّا إذا كان الأمر وراء المفاهيم والألفاظ ، وكان غير متّجز إلى أجزاء وفصول ، فلا طريق للعقل إلى نيله . فمحصّل معنى الآيتين : أنّ الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقام رفيع وإحكام ، لا تناله العقول لذينك الوصفين ، وإنّما أنزلناه بجعله مقروءاً عربيّاً رجاء أن يعقله الناس » [1] . وممّا يعضد ذلك أيضاً قوله تعالى : ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ( ( الواقعة : 75 - 79 ) ، « فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون ، لا يمسّه هناك أحد إلاّ المطهّرون من عباد الله ، وأنّ التنزيل بعده ، وأمّا قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار ، وهو الذي عبّر عنه في آيات الزخرف بأُمّ الكتاب ، وفي سورة البروج باللّوح المحفوظ ، وهذا اللوح إنّما كان محفوظاً لحفظه من ورود التغيّر عليه ، ومن المعلوم أنّ القرآن المنزّل تدريجاً لا يخلو من ناسخ ومنسوخ ، وعن التدريج الذي هو
[1] الميزان في تفسير القرآن ، مصدر سابق : ج 18 ص 84 .