طعام ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه اللّه عز وجل ! واشترى يوماً ثوبين غليظين فخيّر قنبراً فيها ، فأخذ واحداً ولبس هو الآخر ، ورأى في كمّه طولاً عن أصابعه فقطعه . قال ضرار بن ضمرة : دخلت على معاوية بعد قتل علي أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : صف لي علياً فقلت : أعفني ! فقال : لا بدّ أن تصفه ، فقلت : أما إذا لا بدَّ ، فإنه كان واللّه بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلاً ويحكم عدلاً ، يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويأنس باللّيل ووحشته ، غزير العبرة طويل الفكرة ، يقلّب كفه ويعاتب نفسه ، يعجبه من اللّباس ما خشن ومن الطعام ما جشب . وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن واللّه مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكاد نكلّمه هيبة له ، يُعظِّم أهل الدين ويقرّب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله . فأشهد باللّه لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى اللّيل سدوله وغارت نجومه ، قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول : يا دنيا غُرِّي غيري ، أبي تعرَّضت أم لي تشوَّفت ؟ هيهات هيهات قد أبنتك ثلاثاً لا رجعة فيها ، فعُمرك قصير وخطرك يسير وعيشك حقير . آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق ! فبكى معاوية وقال : رحم اللّه أبا الحسن كان واللّه كذلك ! قال معاوية : كيف كان حبّك له ؟ قال : كحبّ أم موسى لموسى ! قال : فما حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذُبح ولدها في حجرها ، فلا ترقأ عبرتها ، ولا يسكن حزنها ! وبالجملة ، فزهده لم يلحقه أحد فيه ، ولا يسبقه أحد إليه . وإذا كان أزهد الناس كان هو الإمام ، لامتناع تقدّم المفضول عليه .