أقول : الباحث الخبير يظفر على أزيد من ذلك . فتحصل أن المراد من الفطرة هي معرفة الإنسان ربه تعالى وتوحيده سبحانه معرفة خارجة عن الحدين وبسيطة لا يعرف أنه يعرف ، فيحتاج اشتدادها وزيادتها إلى تذكير المذكرين وتنبيه العارفين ، فلا يزال تزداد حتى يبلغ المؤمن إلى درجات سامة ومقامات عالية من الإيمان والعرفان به تعالى وبنعوته ومعاني أسمائه سبحانه . وليس المراد منها الغريزة التي هي التمايلات الطبيعية ، لوضوح أن الفطرة بهذا المعنى لا تصلح أن تكون أساسا وبناءا للحقائق والعلوم التي يدعو إليها الأنبياء والمرسلون . وكذلك ليس المراد منها أنها من البديهيات الأولية مثل استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما . وليس المراد منها أنها من البديهيات الثانوية التي دليلها معها ، مثل معرفة الأربعة زوج . وأيضا ليس المراد منها أنها من القضايا التي قريبة من البداهة . ضرورة أن هذه المعاني معلومة بالعلم الحقيقي . لأن استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما وكذلك معرفة الأربعة زوج ، معلوم للإنسان بالبداهة . وهذه المعاني لامساس لها بالفطرة التي وردت في الكتاب والسنة في باب معرفته تعالى وتوحيده . وكذلك ليس المراد منها أنها معرفة المعلول الواجد للشعور علته بالعلم الحضوري . لأنه يستحيل أن يكون تعالى معلوما ومعقولا بغيره تعالى ، سواء كان حصوليا أو حضوريا . فإنه تعالى ظاهر بالظهور الذاتي في شدة غير متناهية . على أن المراد من الفطرة في الآيات والروايات هو تعريفه تعالى نفسه إلى عباده بما شاء وأراد ، لا بما شاؤوا وأرادوا . وليس هو تعالى من قبيل المعلومات العادية - حصوليا كان أو حضوريا - كي يكون شرعة لكل وارد حتى يردها واحد بعد واحد .