قالوا : وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله لا يقاتل قوماً حتّى يدعوهم . فازداد القوم لورود رسل نبيّ صلّى الله عليه وآله وكتابه نفوراً واقتراحاً ، ففزعوا لذلك إلى بيعتهم العظمى ، وأمروا ففرش أرضها وألبس جدرها بالحرير والديباج ، ورفعوا الصليب العظيم ، وكان من ذهب مرصّع أنفذه إليهم القيصر الأكبر ، وحضر ذلك بني الحرث بن الكعب ، وكانوا ليوث الحرب وفرسان الناس ، قد عرفت العرب ذلك لهم في قديم أيّامهم وفي الجاهلية ، فاجتمع القوم جميعاً للمشورة والنظر في أمورهم ، وأسرعت إليهم القبائل من مذحج وعكّ وحمير وأنمار ، ومن دنا منهم نسباً وداراً من قبائل سبأ ، وكلّهم قد ورم أنفه غضباً من قومهم ، ونكص من تكلّم منهم بالإسلام ارتداداً ، فخاضوا وأفاضوا في ذكر المسير بنفسهم وجمعهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، والنزّول به بيثرب لمناجزته . فلمّا رأى أبو حامد حصين بن علقمة - أسقفهم الأوّل وصاحب مدارسهم وعلاّمهم ، وكان رجلا من بني بكر بن وائل - ما أزمع القوم عليه من إطلاق الحرب ، دعا بعصابة فرفع بها حاجبيه عن عينيه - وقد بلغ يومئذ عشرين ومائة سنة - ثم قام فيهم خطيباً معتمداً على عصا - وكانت فيه بقيّة ، وله رأي ورويّة ، وكان موحّداً يؤمن بالمسيح عليه السلام وبالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويكتم إيمانه ذلك من كفرة قومه وأصحابه - فقال : مهلاً بني عبد المدان مهلاً ، استديموا العافية والسعادة ، فإنّهما مطويّان في الهوادة ، دبّوا إلى قوم في هذا الأمر دبيب الذرّ ، وإيّاكم والسورة العجلي ، فإنّ البديهة بها لا ينجب ، إنّكم - والله - على فعل ما لم تفعلوا أقدر منكم على ردّ ما فعلتم ، ألا إنّ النجاة مقرونة بالأناة ، ألا ربّ إحجام أفضل من إقدام ، وكائن من