ثم ركب المنصور باللَّه صلوات اللَّه عليه بعد ذلك فسلَّمت عليه وأنا خائف شديد الخوف ممّا كان إليّ منه ، فقرّبني وأدنانى وأثنى عليّ / بما هو أهله ، وقال : يا نعمان ، استعمل الشدّة في موضعها والرفق في موضعه ، فو اللَّه إنّي لأرى العصفور يذبح فيرقّ قلبي له ، وأنت تراني أخوض الدم في موضع الحقّ وفيما لابدّ منه . فاعتبرت قول المنصور باللَّه وقول المعزّ لدين اللَّه صلوات اللَّه عليه ، فوجدته واحدا لا اختلاف فيه : لم يأمر المنصور صلوات اللَّه عليه لمّا أمر بالغلظة والشّدة ، بالدخول في الباطل ولا بالتعدّي إليه . ولم يأمر المعز لدين اللَّه صلوات اللَّه عليه لما أمر بالرفق ، بترك الحقّ ولا بالإدهان فيه ، فوجدت قولهما صلوات اللَّه عليهما مأخوذا من كتاب اللَّه جلّ ذكره ، وقول / رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله : فقد قال اللَّه تعالى لنبيّه : * ( « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ والْمُنافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ ومَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وبِئْسَ الْمَصِيرُ [1] » ) * * . وقال : * ( « لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْه ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [2] » ) * . فوصفه باللين في موضعه وأمره بالغلظة في مكانها ووصف المؤمنين من أصحابه فقال : * ( « أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [3] » ) * . وروى لنا الرواة عن أئمّتنا عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله أنّه قال : من لقي الكافر فليلقه بوجه مكفهرّ [4] ! وأنّه قال صلوات اللَّه عليه : لقي عيسى بن مريم يحيى بن زكريّا عليهما السلام / ، فتبسّم عيسى وجهه ، وقطَّب يحيى وقال : تضحك يا روح اللَّه كأنّك أصبحت آمنا من عذاب اللَّه ؟ قال عيسى : وأنت يا نبيّ اللَّه تقطَّب كأنّك أصبحت آئسا من رحمة اللَّه ! فأوحى اللَّه إليهما : أحبّكما إليّ أبشّكما بصاحبه [5] .
[1] التوبة ، 73 . والتحريم ، 9 . [2] التوبة ، 129 . [3] الفتح ، 29 . [4] حديث : من لقي الكافر لم تذكره الصحاح والمسانيد . [5] حديث عيسى ويحيى : لم نجده في أمهات كتب الحديث .