له من الرّيح والطَّير والجنّ بأرض الشام فلا يعرف أمر ملكة سبأ ولا اسمها ولا دينها على قرب مسافة ما بينهما حتّى يأتيه بذلك الهدهد ؟ ! وأقلّ ملك من ملوك الأرض اليوم قد علم مثل ذلك من أحوال من / كان في أطرافها من الملوك [1] ؟ ثمّ كأنّي رأيته وارى عن ذلك فجاء في ظاهر القول بحجّة هي مثله في الحال ، فقال : وهذا غير منكر في قدرة اللَّه ( عج ) ، وقد أقام يوسف بمصر ما أقام ، ويعقوب أبوه بالشام لم يعرف خبره ولا أين هو . وأحد من يؤسر اليوم في أطراف الأرض ويكون في الحبوس والوثاق والمضايق يصل خبره إلى أهله ويكاتبهم بحاله . وكأنّي رأيته جاء في الحجّة بمثل ما ابتدأه في القول وترك ذلك موقوفا . وقد كنت قديما أعتبر ذلك من قوله فلا أراه إلَّا كما ظننت به . فما هو إلَّا أن تمّ قولي حتّى ابتدأني ( صلع ) فقال : وما في أمر الهدهد وما ذكره / من جهل سليمان ( صلع ) بأمر ملكة سبأ حتى أتاه به الهدهد ، ما يهوّل به الفاسق ويطيل ويسهب فيه هذا الإسهاب ويطنب مثل هذا الإطناب ؟ وهل علم أحد من النّبيّين والمرسلين والملائكة المقرّبين أمرا من الأمور إلَّا من بعد أن كانوا به جاهلين ؟ والمتفرّد بعلم ما كان ويكون ، هو اللَّه ربّ العالمين فأمّا من دونه من المخلوقين فلم يعرفوا ما كان ولا ما يكون إلَّا بإخبار اللَّه ( عج ) إيّاهم بذلك وإخبار بعضهم بعضا عمّا شاهدوه وبلغهم وعلموه ، فكلّ إنسان بما غاب عنه جاهل حتّى يؤدّيه إليه من شاهده وأخبره عنه . وقد يجوز أن يكون أوّل من / أدّى إلى سليمان أمر ملكة سبأ الهدهد . ومثل هذا من الأمور قد يعلمه من هو دون من يجهله ، كما يعلم أخبار ما في شاسع البلدان
[1] لقد عزا الجاحظ هذا القول لأصحابه فصدره بقوله : « ثم طعن في ملك سليمان وملكة سبأ ناس من الدهرية وقالوا » ( الحيوان 4 / 85 ) وتعقبهم بالرد ( انظر صفحة 86 وما بعدها ) . والنقل هنا بالمعنى وليس من لفظ الجاحظ . والعجب للقاضي النعمان كيف تغيب عنه دقة الجاحظ وهو يثير مسألة الهدهد ، ولعله في هذا أحد أحدين : اما أن يكون قد طال الأمد على قراءته الحيوان فنسي التفاصيل ، أو أن النسخة التي طالعها كان بها سقط واختلال ، ونستبعد عليه التعمد ، برغم الخلاف بين المعتزلة والشيعة الذي نجد له أصداء واضحة في بعض فصول هذا الكتاب ، ولا سيما إبطال حجية العقل ( انظر ص 423 ) وكذلك في بعض كتب الجاحظ « السياسية » مثل ك . العثمانية المعروف وكتاب « امامة معاوية » الذي ذكره المسعودي ( مروج الذهب ج 3 ص 253 ) فقال إنه يؤيد فيه إمامة بني أمية وينتصر لهم من علي وشيعته .