وعندما رأَى المحدّثون أَنَّ المذهب الحنفي ومنهجه العلمي يهوي بالناس إِلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ، نهضوا لمواجهة حركته ، وتطرفوا في مواقفهم وقاموا بما يلي : أَوّلاً : لجأ كثير منهم إِلى الحكّام ، ليعززوا قدرتهم في نشر الحديث والآثار ، ولينتقموا بذلك من أَهل الرأي ، فالخلفاء من بني أُميّة ، وكذا من بني العباس من جانب آخر كانوا بحاجة إِلى ما يعزز مركزهم السياسي ، فأيُّ طبقة أَقوى لهم من العلماء لا سيما الذين يروون الحديث ، ويشتهرون بالحفظ والإِمامة في الحديث ؟ ! وقد حصل هذا الشكل من التعاون والاتفاق في القرون الاُولى . وثانياً : استخدم الرأي والنظر المقرون بالحديث من ناحية المحدّثين ، ليعلنوا أَنَّهم أَيضاً فقهاء وأَصحاب نظر كما يظهر ذلك في الموطَّأ والبخاري . أَمّا الإِلتجاء إِلى الحكام فهو حركة متمثلة في أَبي الزناد ، وابن شهاب الزُّهري ، والحُميدي ، وأَبي بكر وعثمان ابني أَبي شيبة من شيوخ البخاري ، وكانوا في خدمة خلفاء بني أُمية وبني العباس . وقد كان ابن شهاب الزُّهري في طليعة من خدم الأُمويين مدة خمس وأَربعين سنة واختتم مهمته في تدوين السنّة بأمرهم ، حتى إِنه أَغضب جماعة من المحدّثين المدنيين من شيوخه ومعاصريه ، مثل : علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) ، وسعيد بن المسيب ، وأَبي حازم سلمة بن دينار وقيل : « أَنَّه جندي للأُمويين » ، أو : « هو منديل للأُمراء » و « أَنَّه أَفسد نفسه بصحبته للحكام » . وقد فصلنا دوره في كتاب « تدوين الأُمويين للحديث النبوي » . وسنرى أَنَّ روايات الزُّهري في صحيح البخاري فقط تبلغ زهاء أَلف وثلاث مائة حديث . [1] وقد نجح عن تلك الصراعات بين المحدّثين وأَهل الرأي ما يأتي :
[1] تدوين الأُمويين للحديث النبوي ودور ابن شهاب الزُّهري / باب كثرة روايات الزُّهري .