والله سبحانه لم يبيّن عقاب المنقلبين على أعقابهم في هذه الآية ، واكتفى بتمجيد الشاكرين الذين استحقّوا جزاءه سبحانه وتعالى ، غير أنّه من المعلوم بالضرورة أنّ المنقلبين على الأعقاب لا يستحقّون ثواب الله وغفرانه ، كما أكّد ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أحاديث متعددة سوف نبحث في البعض منها إن شاء الله في هذا الكتاب . ولا يمكن تفسير الآية الكريمة صحيحة على مسيلمة ، والأسود العنسي ، وذلك حفاظاً على كرامة الصحابة ، فهؤلاء قد انقلبوا وارتدوا عن الإسلام ، وادّعوا النبوّة في حياته ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد حاربهم رسول الله وانتصر عليهم . كما لا يمكن تطبيق الآية الكريمة على مالك بن نويرة وأتباعه الذين منعوا الزكاة في زمن أبي بكر لعدّة أسباب : منها : إنّهم إنّما منعوها ولم يعطوها إلى أبي بكر تريّثاً منهم حتّى يعرفوا حقيقة الأمر ، إذ إنّهم حجّوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حجّة الوداع ، وقد بايعوا الإمام عليّ بن أبي طالب في غدير خم بعد ما نصّبه رسول الله للخلافة كما بايعه أبو بكر نفسه ، ففوجئوا عند قدوم رسول الخليفة بنعي رسول الله وطلبه الزكاة باسم الخليفة الجديد أبي بكر ، وهي قضية لا يريد التاريخ الغوص في أعماقها حفاظاً على كرامة الصحابة أيضاً . ومنها : إنّ مالكاً وأتباعه مسلمون ، شهد بذلك عمر وأبو بكر نفسه ، وعدة من الصحابة الذين أنكروا على خالد بن الوليد قتله مالك بن نويرة ، والتاريخ يشهد أنّ أبا بكر أدّى ديّة مالك لأخيه متمم من بيت مال المسلمين ، واعتذر له عن قتله ، ومن المعلوم أنّ المرتدّ عن الإسلام يجب قتله ، ولا تؤدّى ديّته من بيت المال ، ولا يعتذر عن قتله [1] .
[1] راجع للاطلاع على قصة مالك بن نويرة الإصابة في تمييز الصحابة 5 : 560 ، ت 7712 سير أعلام النبلاء 1 : 376 ، تاريخ خليفة بن الخياط : ص 68 ، شرح نهج البلاغة 1 : 179 ، تاريخ مدينة دمشق 16 : 256 ، البداية والنهاية لابن كثير 6 : 355 . قال الزمخشري في الفائق في غريب الحديث 3 : 65 ، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 4 : 15 : " إن مالك بن نويرة ( رضي الله عنه ) قال لامرأته يوم قتله خالد بن الوليد : قتلتني . أي عرضتني بحسن وجهك للقتل لوجوب الدفع عنك ، والمحاماة عليك ، وكانت جميلة حسناء تزوجها خالد بعد قتله ، فأنكر ذلك عبد الله بن عمر . وقيل فيه : أفي الحقّ أنا لم تجف دماؤنا * وهذا عروساً باليمامة خالد " وفي تاريخ أبي الفداء 1 : 221 ، ووفيات الأعيان 6 : 14 ، وتاريخ الإسلام 3 : 34 : " . . . فقال خالد : لا أقالني الله إن لم أقتلك ، وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه ، فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد : هذه التي قتلتني ، وكانت في غاية الجمال ، فقال خالد : بل والله قتلك برجوعك عن الإسلام . فقال مالك : أنا على الإسلام ! فقال خالد : يا ضرار اضرب عنقه ! فضرب عنقه وجعل رأسه أثفية القدر ، وكان من أكثر الناس شعراً ، وقبض خالد امرأته . . . ولمّا بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر : إنّ خالداً قد زنى فارجمه ! قال : ما كنت أرجمه فإنه تأوّل فأخطأ ، قال : فإنّه قتل مسلماً فاقتله ! قال : ما كنت اقتله فإنّه تأوّل فأخطأ . . " والملفت للنظر أن حتّى لو قبلنا بأن خالداً تأوّل فأخطأ ، لكن أبا بكر كيف عرف أنّ خالداً متأوّل مع أنّه لم يسمع حجّة خالد وكلامه في سبب قتل مالك بن نويرة ؟ ! وحكم عليه بأنّه متأوّل لسماع قتله لمالك دون سماع السبب ! وفي تاريخ الخميس 2 : 233 : " اشتدّ في ذلك عمر وقال لأبي بكر : ارجم خالداً فإنّه قد استحل ذلك ! فقال أبو بكر : والله لا أفعل ، إن كان خالد تأوّل أمراً فأخطأ " . وقال الواقدي في كتاب الردة 163 : " وكان أبو قتادة قد عاهد الله إلاّ يشهد مع خالداً مشهداً أبداً بعد ذلك اليوم . ثمّ قدم خالد مالك بن نويرة ليضرب عنقه ، فقال مالك : أتقتلني وأنا مسلم أصلي القبلة ؟ فقال خالد : لو كنت مسلماً لما منعت الزكاة ، ولا أمرت قومك بمنعها ، والله لما قمت من مقامك حتّى أقتلك . قال : فالتفت مالك بن نويرة إلى امرأته فنظر إليها ثمّ قال : يا خالد ، بهذه تقتلني ! فقال خالد : بل لله أقتلك برجوعك عن دين الإسلام . . قال : ثُمّ قدمه خالد فضرب عنقه صبراً . فيقال : إنّ خالد بن الوليد تزوج بامرأة مالك ، ودخل بها ، على ذلك أجمع أهل العلم ، وقد ذكر ذلك حوى بن سعيد بن زهرة السعدي حيث يقول : إلاّ قل لحي أوطئوا بالسنابل * تطاول هذا الليل من بعد مالكِ عدا خالداً بغياً عليه لعرسه * وكان له فيها هوىً قبل ذلكِ وأمضى هواه خالدٌ غير عاطف * عناده الهوى عنها ولا متمالكِ . . . " . وفي تاريخ الطبري 2 : 503 : " . . وكان ممّن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة ، وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً أبداً بعدها . وكان يحدث أنّهم لمّا غشوا القوم رعوهم تحت الليل ، فأخذ القوم السلاح ، قال : فقلنا : إنّا المسلمون . فقالوا : ونحن المسلمون . قلنا : فما بال السلاح معكم ؟ قالوا لنا : فما بال السلاح معكم ؟ قلنا : فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح . قال : فوضعوها ثمّ صلّينا وصلّوا ، وكان خالد يعتذر في قتله أنّه قال وهو يراجعه : ما أخال صاحبكم إلاّ وقد كان يقول : كذا وكذا ! قال : أوما تعده لك صاحباً ! ثمّ قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه ، فلمّا بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال : عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ، ثمّ نزى على امرأته . . " . وهذه الحجّة التي طرحها خالد بن الوليد أوضعت على لسانه خاوية وباردة لا تصلح للاحتجاج ، لأنّه لا يصح قتل المسلم لمجرد مخاطبته لشخص آخر وهو يتحدث عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنّه صاحبك ، لأنّها لا تدل صراحة ولا التزاماً على الارتداد فإنّ إثبات صحبة النبيّ لشخص مسلم لا تنفي صحبته عمّن سواه . مع أنّ المصطنع للعبارة لم يكملها ، فلم نرى رد مالك بن نويرة على خالد بن الوليد حينما خاطبه بقوله أوما تعدّه لك صاحباً ؟ ! فهذا يكشف عن أنّ العبارة مصطنعة لا واقع لها . وارجع أيضاً إلى كنز العمال 5 : 619 ، أُسد الغابة 4 : 295 ، تاريخ ابن خلدون : ق 2 ، ج 2 : 74 ، الاستغاثة 1 : 6 ، السيرة النبوية لابن كثير 3 : 595 ، الكامل في التاريخ 2 : 359 ، فتوح البلدان 1 : 107 ، وفيات الأعيان 6 : 15 .