وأنا لي هنا وقفة ، فلا يمكن لي أن أقرأ مثل هذا ولا أتأثّر ، ولا أعجب من تصرّف هؤلاء الصحابة تجاه نبيّهم ، وهل يقبل عاقل قول القائلين بأنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمتثلون أوامر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وينفذونها ، فهذه الحادثة تكذّبهم وتقطع عليهم ما يرومون ، هل يتصوّر عاقل بأنّ هذا التصرف في مواجهة النبيّ هو أمر هيّن أو مقبول أو معذور ؟ ! قال تعالى : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) [1] . فهل سلّم عمر بن الخطاب هنا ، ولم يجد في نفسه حرجاً ممّا قضى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ! أم كان في موقفه تردد في ما أمر النبي وخصوصاً في قوله : أولست نبي الله حقّاً أولست كنت تحدثنا إلى آخره ؟ ! وهل سلّم بعدما أجابه رسول الله بتلك الأجوبة المقنعة ؟ كلا لم يقتنع بجوابه وذهب يسأل أبا بكر نفس الأسئلة ، وهل سلّم بعدما أجابه أبو بكر ونصحه أن يلزم غرز النبي ؟ لا أدري إذا كان سلّم بذلك أو اقتنع بجواب النبي أو بجواب أبي بكر ! ! وإلاّ لماذا تراه يقول عن نفسه : " فعملت لذلك أعمالا . . " [2] .
[1] سورة النساء : 65 . [2] ورد في صحيح ابن حبان 11 : 224 " قال عمر بن الخطاب : فعملت في ذلك أعمالا ، يعني في نقض الصحيفة " ، وقال ابن حجر في فتح الباري 5 : 255 " قال بعض الشراح : قوله : أعمالا ، أي من الذهاب والمجيء والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكاً من عمر بل طلباً لكشف ما خفي عليه وحثاً على إذلال الكفار . . . " . أقول : إنّ عمر اعترف بنفسه بالشك حيث قال : " ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ " ( انظر المصنف لعبد الرزاق 5 : 339 ، صحيح ابن حبان 11 : 224 ، المعجم الكبير للطبراني 20 : 14 ، تفسير الطبري 26 : 129 ، الدر المنثور للسيوطي 6 : 77 ، تفسير الثعلبي 9 : 60 ) ، ولا ريب أنّ هذه الجملة دالة على أنّ عمر كان شاكاً في دينه ، ولا شك أن الشكّ في الدين كفر ، والتعصب الأعمى لتقديس عمر بن الخطاب وغيره الكثير من الشخصيات المصطنعة أدت بابن حجر العسقلاني مع تعلات عمر هذه واعترافاته وشكوكه إلى جعله الأعلم بشؤون الدين ومصالحه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ! ! وذكر الآلوسي في تفسيره 13 : 273 " فلمّا تأخر ذلك ( أي تأخّر تعبير الرؤيا التي رآها النبي ( صلى الله عليه وآله ) في دخول مكة ) قال على طريق الاعتراض عبد الله بن أُبي ، وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام . وقد روي عن عمر قال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه " ! ولا ندري لماذا تأثر عمر بالمنافقين وأخذ يردّد كلامهم ، ونحن نأخذ برواية الآلوسي ونترك درايته . وفي الأزمنة الأخيرة ظهرت نابتة تدّعي لنفسها العلم ، وتطلق الكلمات بدون تثبت ، حتّى تجرأت وأخذت تطعن في أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فلما رأوا صنائع الخليفة عمر بن الخطاب المزرية في صلح الحديبية ، وكيفية اعتراضه على الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومكالمته بشدة وغلظة ، وعدم اقتناعه بما قاله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واقراره بأنّه فعل أفعالاً وأعمالاً يعلمها الله سبحانه وتعالى ، وفوق ذلك كُلّه اقراره بأنّه ما شك في الإسلام إلاّ ذلك اليوم الذي صالح فيه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع مشركي قريش ، فلمّا رأى أنصار عمر بن الخطاب ومحبيه هذه الأفعال الشنيعة والأعمال الغريبة التي تستوقف القارئ للتأمّل حتّى أخذوا بالطعن بعميد أهل البيت ( عليهم السلام ) وهو الإمام علي ( عليه السلام ) فقالوا : علي بن أبي طالب لم يمتثل أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما أمره بمحو اسمه من كتاب الصلح ؟ فإذن لم يخالف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمر فقط وإنّما علي بن أبي طالب خالف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعصى أمره ؟ ! وفي الجواب نكتفي بنقل كلام الإمام الشوكاني والنووي فإنّهما قد أجادا في دفع هذا الوهم : قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار 2 : 229 : " قال الآسنوي : قد اشتهر زيادة سيدنا قبل محمّد عند أكثر المصلين ، وفي كون ذلك أفضل نظر . وقد روي عن ابن عبد السّلام أنّه جعله من باب سلوك الأدب ، وهو مبني على أنّ سلوك طريق الأدب أحب من الامتثال ، ويؤيده حديث أبي بكر حين أمره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يثبت مكانه فلم يمتثل وقال : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكذلك امتناع علي عن محو اسم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الصحيفة في صلح الحديبية بعد أن أمره بذلك وقال : لا أمحو اسمك أبداً . . فتقريره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهما على الامتناع من امتثال الأمر تأدباً مشعر بأولويته " ، وأيضاً نقله في عون المعبود العظيم آبادي 3 : 191 . وقال النووي في شرح مسلم 12 : 126 : " قوله : ( فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي : امحه ! فقال : ما أنا بالذي أمحاه ) ، هكذا هو في جميع النسخ بالذي أمحاه ، وهي لغة في امحوه . وهذا الذي فعله علي ( رضي الله عنه ) من باب الأدب المستحب لأنّه لم يفهم من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تحتيم محو علي بنفسه ولهذا لم ينكر . . " . ويقرب من هذا الكلام ذكره - أيضاً - الجصاص في كتاب الفصول في الأُصول 4 : 490 ، والصالحي الشامي في كتاب سبل الهدى والرشاد 5 : 77 . وقال ابن حجر في فتح الباري 7 : 503 : " ثُمّ قال لعلي : امح رسول الله ، أي امح هذه الكلمة المكتوبة من الكتاب . فقال : لا والله لا أمحوا أبداً . وللنسائي من طريق علقمة بن قيس عن علي قال : كنت كاتب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الحديبية ، فكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله ، فقال سهيل : لو علمنا أنّه رسول الله ما قاتلناه امحها ، فقلت : هو والله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإن رغم أنفك ، لا والله لا أمحوها ، وكأن علّياً فهم أن أمره له بذلك ليس متحتماً فلذلك امتنع من امتثاله ، ووقع في رواية يوسف بعد فقال لعلي : امح رسول الله ؟ فقال : لا والله لا أمحاه أبداً . قال : فأرنيه ، فأراه إياه فمحاه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيده ، ونحوه في رواية زكريا عند مسلم وفي حديث علي عند النسائي وزاد وقال : أما أنّ لك مثلها وستأتيها وأنت مضطر ، فبشر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ما وقع لعلي يوم الحكمين فكان كذلك " . هذا ما ذكره علماء السنة في دفع هذا الايهام الذي أورده في حقّ سيد العترة الطاهرة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) . ومنه تعرف أنّ هذا يختلف تمام الاختلاف عمّا صدر من عمر بن الخطاب من أفعال وتصرفات شنيعة يندى لها الجبين ، فعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) توقف عن محو اسم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الصحيفة تأدباً واجلالاً واكراماً له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بينما عمر بن الخطاب اعترض على كتاب الصلح ، ولم يقنع بجواب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فكلم أبا بكر ، وقد شك في النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأمر الدين ، وذكر بأنّه فعل أفعالاً الله اعلم بها . . إلى غير ذلك . فأين فعل عمر بن الخطاب المخالف للآداب والقيّم الإسلامية مع فعل علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) الموافق للأخلاق والموازين الأدبية ، مالكم كيف تحكمون ! ! بل إنّ الملاحظ بجدّ أنّ عمر بن الخطاب قد شكّ في أمر النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يفكر بأيّ شيء يخطر على باله بأنّ هنالك مصلحة أو غير ذلك أدت إلى إبرام عقد الصلح ، بينما علي بن أبي طالب كان ثابت الإيمان لم يتغير ولم يتبدل وازداد قوّة ، فلذلك رفض إمحاء اسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ; لأن يده لا تطيق مسح أسم النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .