السنّة النبويّة كلّه تنويه وتمجيد في أهل البيت ، وتوجيه الناس إلى فضلهم وفضائلهم ، كما ألمح لذلك الإمام أحمد بن حنبل . ويكفينا من القرآن والسنّة ما أوردناه من صحاح « أهل السنّة والجماعة » للدلالة على تفضيل أهل البيت على من سواهم من البشر . وبعد نظرة وجيزة إلى عقائد « أهل السنّة والجماعة » وإلى كتبهم وإلى سلوكهم التاريخي تجاه أهل البيت ، ندرك بدون غموض بأنّهم اختاروا الجانب المعاكس والمعادي لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، وبأنّهم أشهروا سيوفهم لقتالهم ، وسخّروا أقلامهم لانتقاصهم والنيل منهم ، ولرفع شأن أعدائهم ومن حاربهم . ويكفينا على ذلك دليلٌ واحدٌ يعطينا الحجّة البالغة ، وكما قدّمنا بأنّ « أهل السنّة والجماعة » لم يعرفوا إلاّ في القرن الثاني للهجرة كردِّ فعل على الشيعة الذين والوا أهل البيت وانقطعوا إليهم ، فإنّنا لا نجد شيئاً في فقههم وعباداتهم وكلّ معتقداتهم يرجعون فيه إلى السنّة النبويّة المروية عن أهل البيت ( 1 ) .
1 - وهب أنّهم كما يزعمون اليوم ويقولون : نحن أولى بعلي وأهل البيت من الشيعة ، فلماذا ترك علماؤهم وأئمّة المذاهب عندهم فقه أهل البيت وكان عندهم نسياً منسياً ؟ واتّبعوا مذاهب ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان ، قال تعالى : * ( إِنَّ أَوْلَى الناسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) * ، أمّا الذين لم يتّبعوه فليسوا أولى به كما لا يخفى ( المؤلّف ) . وقد قال ابن تيميّة الحراني في كتابه منهاج السنّة 7 : 529 : « فليس في الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الفقهاء من يرجع إليه [ يعني علي بن أبي طالب ] في فقهه . . » فهذا تصريح واضح بأنّ أهل السنّة تركوا فقه الإمام علي ( عليه السلام ) الذي هو سيّد العترة الطاهرة . وقال ابن قيم الجوزيّة في أعلام الموقعين 1 : 21 في كلامه حول انتشار العلم وعمّن مأخذه ، ونفي وجود أي دور لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : « والدين والفقه والعلم انتشر في الأُمّة عن أصحاب ابن مسعود ، وأصحاب زيد بن ثابت ، وأصحاب عبد اللّه بن عمر ، وأصحاب عبد اللّه بن عباس ، فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة ، فأمّا أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد اللّه بن عمر ، وأمّا أهل مكّة فعلمهم عن أصحاب عبد اللّه بن عباس ، وأمّا أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد اللّه بن مسعود » . فنفى وجود علم لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أو تلامذة حملت علمه وأدته إلى الناس ، ولأجل هذا الحيف الذي صدر من ابن القيّم الجوزيّة في حقّ عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، والذي لازم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طيلة حياته وبقي بعده مدّة غير قليلة . . لأجل ذلك علّق الإمام محمّد أبو زهرة على هذا الكلام قائلا : « ثمّ إنّ هناك عليّ بن أبي طالب الذي مكث نحواً من ثلاثين سنة بعد أن قبض اللّه تعالى رسوله إليه ، يفتي ، ويرشد ويوجّه ، وقد كان غواصّاً طالباً للحقائق ، وقد أقام في الكوفة نحو خمس سنوات ، ولا بدّ أنّه ترك فيها فتاوى وأقضية وكان فيها المنفرد بالتوجيه والارشاد ، وأنّه عرف بغزارة في العلم كرم اللّه وجهه ، وعمق وانصراف إلى الإفتاء في مدّة الخلفاء قبله ، والمشاركة في كلّ الأُمور العميقة التي تحتاج إلى فحص وتقليب للأُمور من كلّ وجوهها ، مع تمحيص وقوّة واستنباط . وإنّه يجب علينا أن نقرّ هنا أنّ فقه علي وفتاويه وأقضيته لم ترو في كتب السنّة بالقدر الذي يتّفق مع مدّة خلافته ، ولا مع المدّة التي كان منصرفاً فيها إلى الدرس والإفتاء في مدّة الراشدين قبله . وقد كانت حياته كلّها للفقه وعلم الدين ، وكان أكثر الصحابة اتصالاً برسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقد رافق الرسول وهو صبيّ قبل أن يبعث ( عليه السلام ) ، واستمرّ معه إلى أن قبض اللّه تعالى رسوله إليه ، ولذا كان يجب أن يذكر له في كتب السنّة أضعاف ما هو مذكور فيها . وإذا كان لنا أن نعرف السبب الذي من أجله اختفى عن جمهور المسلمين بعض مرويّات عليّ وفقهه ، فإنّا نقول : إنّه لا بدّ أن يكون للحكم الأموي أثر في اختفاء الكثير من آثار علي في القضاء والإفتاء ; لأنّه ليس من المعقول أن يلعنوا عليّاً فوق المنابر وأن يتركوا العلماء يتحدّثون بعلمه ، وينقلون فتاويه وأقواله للناس ، وخصوصاً ما كان يتصل منها بأُسس الحكم الإسلامي . والعراق الذي عاش فيه عليّ رضي اللّه عنه وكرّم اللّه وجهه ، وفيه انبثق علمه ، كان يحكمه في صدر الدولة الأموية ووسطها حكّام غلاظ شداد ، لا يمكن أن يتركوا آراء علي تسري في وسط الجماهير الإسلاميّة ، وهم الذين يخلقون الريب والشكوك حوله ، حتى إنّهم يتخذون من تكنية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له ( بأبي تراب ) ذريعة لتنقيصه ، وهو ( رضي الله عنه ) كان يطرب لهذه الكنية ، ويستريح لسماعها ; لأنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالها في محبّة ، كمحبّة الوالد لولده » . ثمّ يعرّج بعد ذلك على قضيته الأخيرة التي ذكرها ، وهي ترك تراث الإمام علي العلمي من قبل المحدّثين ، فهل كلّ الأُمّة تركته ، أم أنّ هناك من حفظ تراثه العلمي ؟ يقول أبو زهرة مجيباً على هذا التسائل : « ولكن هل كان اختفاء أكثر آثار علي ( رضي الله عنه ) وعدم شهرتها بين جماهير المسلمين سبيلا لاندثارها وذهابها في لجة التاريخ إلى حيث لا يعلم بها أحد ؟ ! إنّ عليّاً ( رضي الله عنه ) قد استشهد وقد ترك وراءه من ذريته أبراراً أطهاراً كانوا أئمة في علم الإسلام ، وكانوا ممّن يقتدى بهم ، ترك ولديه من فاطمة الحسن والحسين ، وترك روّاد الفكر محمّد بن الحنفية ، فأودعهم ( رضي الله عنه ) ذلك العلم وقد قال ابن عبّاس : ( إنّه ما انتفع بكلام بعد كلام رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) كما انتفع بكلام عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه ) . لقد قام أُولئك الأبناء بالمحافظة على تراث أبيهم الفكري ، وهو إمام الهدى ، فحفظوه من الضياع ، وقد انتقل معهم إلى المدينة لما انتقلوا إليها بعد استشهاده ( رضي الله عنه ) . وقد يقول قائل : إنّه قد يكون في الاستتار مجال للتزييد ؟ ونقول في الإجابة عن هذا : إنّ التزيد لا يمكن أن يكون من رجال أهل البيت الكريم ، الذي اشتهر رجاله بالصدق في القول والعمل والإخلاص وفي كلّ شؤون دينهم ; فهل يتصوّر التزيد من الحسين أو علي زين العابدين أو الباقر أو الصادق ؟ ! إنّ ذلك لا يتصوّر ، ولا يمكن أن يفرضه عالم مسلم مهما تكن نحلته » . الإمام الصادق للإمام محمّد أبو زهرة : 126 - 128 . فإذا كان فقه عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) محفوظاً عند أبنائه الحسن والحسين وعلي ابن الحسين والباقر والصادق ، فلماذا تركتهم الأُمّة ولم ترجع إليهم في الأخذ بفقه علي ( عليه السلام ) ؟ ! ولماذا تركهم الإمام أبو زهرة نفسه وولّى وجهه شطر الأئمة من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ولم يضمّ إليهم الإمام جعفر بن محمّد الصادق ، ويجعله عدلهم ومساوياً لهم في الأخذ على الأقلّ ؟ ولماذا ولّوا وجوههم شطر النواصب والخوارج ؟ أمثال عمران بن حطّان وعكرمة البربري ، وجرير بن عثمان الحمصي ، وحصين بن نمير الواسطي ، وإسحاق بن سويد العدوي والوليد بن كثير بن يحيى المدني ، وقيس بن أبي حازم . . وغيرهم الكثير الذي أخرجت لهم الصحاح كالبخاري ومسلم ، وتركت سادة أهل البيت أمثال جعفر الصادق ومحمّد الباقر وغيرهم ؟ ! وهناك استفهامات كثيرة يعجز أحفاد الأمويين الإجابة عنها واقناع المسلمين بأسبابها . وقد توهّم الدكتور إبراهيم الرحيلي في كتابه الانتصار للصحب والآل : 168 تناقض المؤلّف في كلامه ; إذ قال تحت عنوان تناقضات المؤلّف : ( قوله في كتابه الشيعة هم أهل السنّة : « ويكفينا على ذلك دليل واحد يعطينا الحجّة البالغة ، وكما قدّمنا بأنّ أهل السنّة والجماعة لم يعرفوا إلاّ في القرن الثاني للهجرة كردِّ فعل على الشيعة الذين والوا أهل البيت وانقطعوا إليهم ، فإنّنا لا نجد شيئاً في فقههم وعباداتهم وكلّ معتقداتهم يرجعون فيه إلى السنّة النبويّة المروية عن أهل البيت » يعارض هذا قوله في الكتاب نفسه : « وإذا شئنا التوسّع في البحث لقلنا بأنّ « أهل السنّة والجماعة » هم الذين حاربوا أهل البيت النبوي . . . ولذلك لو فتشت في عقائدهم وكتب الحديث عندهم فسوف لا تجد لفقه أهل البيت شيئاً عندهم يذكر » . قال الرحيلي : ففي النصّ الأوّل يدّعي أنّ كلّ معتقدات أهل السنّة وفقهم ترجع إلى أهل البيت ! ! وفي النصّ الثاني يناقض ذلك تماماً ويزعم أنّ أهل السنّة أخذوا كلّ معتقداتهم . . . من أعداء أهل البيت . . ) . هذا ما ذكره الرحيلي ، وهو يثير العجب حيث إنّ المؤلّف نفى في النصّ الأوّل رجوع أهل السنّة إلى أهل البيت وقال : « . . لا نجد شيئاً في فقههم يرجعون فيه إلى السنّة النبويّة المروية عن أهل البيت » . وكذلك في النصّ الثاني نفى رجوع أهل السنّة في الأُصول والفروع لأهل البيت ، فكيف يتفوّه الرحيلي بهذا الكلام ويدّعي التناقض على المؤلّف مع أنّه لا تناقض إلاّ في مخيّلته التي أعماها التعصّب المقيت ! !