اختبار الحاكم العبّاسي لعلماء عصره كان الخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور من الدّهاة الكبار ، وقد عرف كيف يستولي على عقول الناس ويشتري ضمائرهم ، وقد عمل على بسط نفوذه وتوسيع دائرة ملكه بوسائل الترغيب والترهيب . كما عرفنا مكره ودهاءه من خلال تعامله مع مالك بعد ما ضربه والي المدينة ، ممّا يدلّنا على الصلة الوثيقة التي تربطه بالإمام مالك قبل تلك الواقعة بزمن طويل . فقد كان لمالك لقاء مع المنصور قبل هذا اللّقاء الذي ذكرناه بخمسة عشر عاماً ، وذلك إبّان استيلاء المنصور على الخلافة ( 1 ) . وقال المنصور لمالك فيما
1 - كان بين مالك والخليفة أبي جعفر المنصور لقاءات متعدّدة كما ذكر ذلك مالك نفسه إذ يقول : ( دخلت على أبي جعفر مراراً ، وكان لا يدخل عليه أحد من الهاشميين وغيرهم إلاّ قبّلوا يده ، فلم أُقبّل يده قط ) تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل ، الرازي 1 : 66 . وفي إحدى المرّات يعترض على مالك لكثرة دخوله على السلطان إذ يقال له : ( إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون . . ) المصدر السابق : 69 . ومرّة يدخل مالك على أبي جعفر المنصور فيطلب منه أن يكتب له الموطأ ليحمل الناس عليه ، فيمتثل مالك طلبه ، ويكتب الموطأ . راجع تاريخ الإسلام للذهبي : 321 حوادث سنة 171 - 180 ، تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل 1 : 58 . وأُخرى يدخل مالك على الخليفة أبي جعفر المنصور فيقول له : يا مالك كثر شيبك . تقدمة المعرفة 1 : 69 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي 8 : 112 . وثالثة يرسله الخليفة أبي جعفر المنصور إلى بني الحسن بن علي الذين جمعهم في حبسه لأجل التفاوض معهم . راجع الكامل في التاريخ ، ابن الأثير 5 : 523 . إلى غير ذلك من اللقاءات التي ذكرها المؤرّخون وما لم يذكروه أكثر وأكثر . وتجدر الإشارة إلى أنّه وقع خطأ في تاريخ ابن قتيبة حيث ذكر أنّ هذا اللقاء الذي ذكره المؤلّف كان في سنة 163 ه - ، وهذا لا يصح ; لأنّ الخليفة أبي جعفر المنصور توفّي سنة 158 ه - . فهناك خطأ في تحديد سنة اللقاء ، ولعله وقع في سنة 150 كما يشير إلى هذا اللقاء الرازي في تقدمة المعرفة ، ويذكر الخليفة لمالك أنّه كثر شيبه ، أو لعلّه في سنة 152 ه حيث ذهب أبي جعفر المنصور إلى الحجّ ولعلّه التقى بمالك هناك .