الثالث : أنه لا خروج من الأزمة إلا بمعالجة النقص في الفكر السياسي ، وبدلا من الاتجاه شرقا وغربا للبحث عن حل ، علينا أن نطلع على ما عند غيرنا من أتباع هذا الدين الحنيف من فكر سياسي وتجربة حركية . الرابع : أن الاختلاف وإن كان عميقا بيننا وبين الآخرين فيما يتعلق بالمرحلة الثانية من الدولة الإسلامية والأولى بعد وفاة المؤسس ، إلا أن فكرهم فيما بعد ذلك لم أقف على أحد من عقلائنا رفضة أو يرفضه ، اللهم إلا لدوافع مادية وأسباب تجارية يعرفها الراسخون في العلم بهذا الميدان . ومن هنا أرى فيما عندهم حلا شافيا لمشكلة القيادة في الحركة الإسلامية المعاصرة . [1]
[1] مع احترامنا للمؤلف نرى أنفسنا ملزمين بتوضيح مسألة قيادة الأئمة عليهم السلام ونيابة الفقهاء عنهم . أما من ناحية تاريخية ، فإن الشيعة بعد النبي صلى الله عليه وآله عملوا بوصيته وتمسكوا بقيادة الأئمة المعصومين من عترته عليهم السلام ، ورجعوا إليهم ، وأخذوا عنهم معالم دينهم وتوجيهاتهم في مختلف أمورهم ، سواء كان الإمام المعصوم حاكما كعلي والحسن عليهما السلام ، أو مسجونا كالإمام موسى الكاظم عليه السلام ، أو مفروضا عليه الإقامة الجبرية كالإمام الجواد والهادي والعسكري عليهم السلام . واستمر الأمر على هذا حتى وقعت الغيبة الكبرى سنة 329 . غاية الأمر أنهم في السبعين سنة الأخيرة كانوا يرجعون إلى الإمام المهدي عليه السلام بواسطة السفراء والوكلاء ، فكانوا يكتبون إليه الرسائل والأسئلة ، وتأتيهم الأجوبة ( التوقيعات ) ومعها الدلالات والآيات التي تقنعهم بأنها صادرة منه عليه السلام . وعندما أخبرهم السفير الرابع علي بن محمد السمري قدس سره بأن الإمام عليه السلام أخبره بأنه سيتوفى بعد أيام وأمره أن لا يعهد إلى أحد من بعده ، لأن الغيبة التامة قد وقعت حتى يأذن الله تعالى بالظهور ، فكان هذا حدثا صعبا على الشيعة ، بل كان هزة شديدة لجماعتهم ، على رغم أن هذه الغيبة موعودة في أحاديث كثيرة ، رووها هم وآباؤهم وأجدادهم . . وهنا نهض الفقهاء والرواة وألفوا العديد من الكتب في الغيبة الموعودة ، وفيما يجب اعتقاده وعمله في عصر الغيبة . ومن ناحية أخرى ، كانت جماعة الشيعة في عاصمة الخلافة بغداد وفي بقية بلاد المسلمين أقلية مضطهدة ، بل كانت تواجه في مناطق عديدة خطر الإبادة الكاملة ، فلا يصح القول إنه حدث تقاعس عند الشيعة عن عقيدة الإمامة . بل الصحيح أنه حدث فراغ كبير بغيبة الإمام عليه السلام وهزة عنيفة لجماعة الشيعة ، ورافق ذلك اضطهاد الدولة ، وتخطيطها للقضاء على هذه الجماعة وإبادتها نهائيا . ولكن الشيعة استطاعوا أن يستوعبوا هزة الغيبة واضطهاد السلطة ويواصلوا وجودهم والتزامهم بعقيدتهم . وكان للفقهاء والرواة دور مؤثر في ذلك . أما من ناحية عقيدية ، فإن من ضرورات مذهب الشيعة أن الأرض لا تخلو من إمام ، إما ظاهر مشهور أو خائف مستور ، وقد كان علي عليه السلام ينادي بها من على منبر الخلافة . وأنه لو بقي شخصان على وجه الأرض لكان أحدهما إماما وحجة لله تعالى على الآخر . بل وردت الرواية بأن الأرض لو خليت من إمام لساخت بأهلها . وهم يحتجون على المذاهب الأخرى بمثل قول النبي صلى الله عليه وآله ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي . كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي . وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروني بم تخلفوني فيها ) مسند أحمد ج 3 ص 17 فإن لا معنى لإخبار الله تعالى بعدم افتراق القرآن والعترة إلى يوم القيامة ، إلا أنه تعالى تكفل بوجود إمام من العترة يبين القرآن في كل عصر إلى يوم القيامة . نعم قد يبتلي الله عباده فيغيب عنهم حجته إلى مدة تقصر أو تطول ، لأسباب وحكم لا نحيط بعلمها ، كما حدث في خاتم الأئمة المهدي عليه السلام ، حيث مد الله تعالى في عمره كما مد في عمر الخضر وغيره . وهنا يأتي دور مرجعية الفقهاء ، كما اصطلح الشيعة على تسميته . ويمكن أن نسميه دور الفقهاء وقيادة الفقهاء ، لكن لا يمكن أن نسميه ( إمامة ) الفقهاء بالمصطلح الشيعي ، لأن الإمامة عند إطلاقها بدون قرينة مخصوصة بالإمام المعصوم المعين من الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وآله . فينبغي الالتفات إلى أن إخواننا السنة قد أطلقوا لقب ( الإمام ) في القرون المتأخرة على الخليفة ، ثم أطلقوه على كبار العلماء ، ثم توسعوا في إطلاقه على الخلفاء والعلماء حتى اضطروا إلى إضافة وصف آخر معه ليدل على خليفة أو السلطان أو كبير العلماء ، فقالوا ( الإمام الأكبر ) تمييزا له عن الأئمة الصغار . أما الشيعة فكلمة الإمام عندهم أولا وبالذات اسم للإمام المعصوم عليه السلام ، وعندما يطلقونها على غيره فمن باب التوسع المجازي ليس إلا ، ومن خذا القبيل إطلاقها على المرحوم الإمام الخميني قدس سره ، وليس بمعنى أنه أمام ثالث عشر ، ولا بمعنى أن الشيعة يعتقدون بإمامة الفقهاء من سنة 255 كما تصور المؤلف ، فإن من ضرورات عقيدتهم ( ومن الأمور التي كان يؤكد عليها الإمام الخميني قدس سره ) أن الإمام المهدي عليه السلام هو الإمام الفعلي إمام العصر المفترض الطاعة ، غاية الأمر أن الأمة محرومة من نعمة ظهوره وقيادته الفعلية المباشرة . والفقهاء نواب بالمعنى الأعم للنيابة ، وبديل غير معصوم ، رغم علو درجاتهم وشامخ مقامهم . وقد جرى البحث ويجري في شروط الفقيه المرجع في عصر الغيبة وفي مدى صلاحياته ، فمن قائل بأنه أعلم الفقهاء في كل عصر ، ومن قائل بأن الأعلمية تعني الأقدر ( أكاديميا ) على استنباط الأحكام فقط ، ولا تعني الأعلم بشؤون العصر والإدارة . ومن قائل يجوز تقليد كل مجتهد ولو كان غير الأعلم . ومن قائل إن صلاحياته الإفتاء والقضاء والأمور الحسبية فقط ، ومن قائل تشمل صلاحياته مضافا إلى ما ذكر إجراء الحدود ، ومن قائل تشمل كل ما يحتاج إليه إقامة الدولة وإدارتها ، بل كل ما يراه مصلحة ولو اقتضى نزع الملكية عن المالك الشرعي وطلاق الزوجة من زوجها الشرعي ، وهو ما يعبر عنه أخيرا بولاية الفقيه المطلقة . . وهو رأي المرحوم الإمام الخميني قدس الله نفسه الزكية . وخلاصة القول : أن الإمام الفعلي عند الشيعة هو الإمام المهدي عليه السلام وإن كان غائبا ، والفقهاء مراجع الدين نوابه بالمعنى الأعم لا الأخص . أما شروط الفقيه وحدود ولايته فهما مسألتان فقهيتان يرجع فيها المكلف إلى مرجع تقليده . وكذا المسائل التي طرحها المؤلف في الفصل الأخير ، مثل تشكيل حركة إسلامية ، أو حزب ، أو استعمال هذا الأسلوب أو ذاك . . فهذه مسائل فقهية لا يصح للإنسان أن يفتي فيها إلا إذا كان مجتهدا جامعا للشرائط ، ولا يجوز للمكلف أن يسلك هذا الطريق أو ذاك إلا بفتوى من مرجع تقليده . وما دام محور الطرح الذي يقدمه المؤلف هو قيادة العلماء والمراجع ، سواء كانوا على مذهب الشيعة أو مذاهب السنة ، فهم الذين يفتون بوجوب العمل بهذا الأسلوب أو ذاك ، ولا يصح لأحد أن يعين لهم تكليفهم وخط عملهم . اللهم إلا أن يكون ما يقدمه تصورا واقتراحا من أجل البحث وإعطاء الفتوى فيه . ولعل ذلك هو قصد المؤلف المحترم . ( الناشر )