وسمعته أيضا يقول : ليست القناعة أن تأكل كل ما وجدته ولو كسرة يابسة كل يوم ، وإنما القناعة أن تطوي الثلاثة أيام فأكثر مع وجود الأكل عندك . ولعل مراده رضي الله عنه الطي الذي لا يضر الجسم فإن جوع المحققين إنما هو اضطرار لا اختيار ، وذلك لأن الكامل يجب عليه إعطاء كل ذي حق حقه من جسمه أو غيره ، ولا يظلم شيئا من رعيته سواء الجوارح وغيرها . وبالجملة فلا بد لمن يريد العمل بهذا العهد من شيخ يسلك به حتى يخرجه من حضرات الاتهام ويدخله حضرات اليقين ، فيعرف إذ ذاك أن ما قسمه الله تعالى لعبد لا يمكن أن يفوته وما لم يقسمه له لا يتبعه نفسه . ومن هذا الباب أيضا الأقدار الجارية على العبد فإنها لا تخلو عن كون ذلك الأمر الذي دافع العبد الأقدار في عدم وقوعه مقدرا أو غير مقدر ، فإن كان مقدرا فلا فائدة في المدافعة إلا تعظيم انتهاك محارم الله تعالى لا غير ، وقد كلف الله تعالى العبد بذلك وجعل له الثواب فيه سواء كان مقدرا أو غير مقدر ، حتى أنه لو كشف له أن الله تعالى كتب عليه الزنا أو شرب الخمر لا يجوز له المبادرة إلى ذلك ، لأنها مبادرة إلى ما يسخط الله عز وجل ، فيجب عليه الصبر حتى يقع ذلك في حالة غفلة أو سهو كما أشار إليه خبر : " " إذا أراد الله تعالى إنفاذ قضائه وقدره سلب من ذوي العقول عقولهم " " . يعني عقولهم الحافظة عن الوقوع لا عقول التكليف فافهم ، لئلا يؤدي إلى إبطال الحدود كلها ، فتأمل في هذا المحل واعمل به . وقد كان أخي الشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى على هذا القدم فأرسلت مرة أن يجعل على مقثأة البطيخ حارسا حتى يحضر له بالمركب يوسقه ، فأرسل يقول : لي المؤمن لا يحتاج إلى مثل ذلك ، فإن ما قسمه الله تعالى لأهل الريف أن يأكلوه لا يقدر أحد يحمل منه إلى مصر بطيخة واحدة ، وما قسمه الله تعالى لأهل مصر لا يقدر أحد من أهل الريف يأكل منه بطيخة واحدة ، ومن كان إيمانه كذلك لا يحتاج إلى حارس . هذا في ملك الإنسان نفسه أما مال الغير فيجب على الحارس حفظه وإن لم يحرسه إثم ولم يستحق أجره ، فافهم والله يتولى هداك . روى الشيخان واللفظ للبخاري مرفوعا : اليد العليا خير من اليد السفلى ، ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله .