وقال قوم : كانت قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد ، وإنّما صارت حرماً بعد دعوته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما صارت المدينة ، لما روي أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : “ انّ إبراهيم ( عليه السلام ) حرّم مكة ، وانّي حرّمت المدينة ” .
وقال بعضهم : كانت حراماً والدعوة بوجه غير الوجه الّذي صارت به حراماً بعد الدعوة ، والأوّل يمنع الله إياها من الاصطلام ، والانتقام كما لحق غيرها من البلاد ، وبما جعل في النفوس من تعظيمها ، والهيبة لها .
والوجه الثاني : بالأمر على ألسنة الرسل ، فأجابه الله إلى ما سأل .
وإنّما سأل أن يجعلها آمناً من الجدب والقحط ، لأنّه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع ، ولم يسأله أمنه من انتقال وخسف ، لأنّه كان آمناً من ذلك .
وقال قوم : سأله الأمرين على أن يديمهما له ، وإن كان أحدهما مستأنفاً ، والآخر كان قبل .
ومعنى قوله : * ( بَلَداً آمِناً ) * أي يأمنون فيه ، كما يقال : ليل نائم أي النوم فيه .
والبلد والمصر والمدينة نظائر .
وقوله : * ( فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ) * يعني بالرزق الّذي أرزقه إلى وقت مماته ، وقيل : فأمتعه بالبقاء في الدنيا ، وقال الحسن : فأمتعه بالأمن والرزق إلى خروج محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيقتله إن أقام على كفره ، أو يجليه عنها ، وقد قرئ في الشواذ فأمتعه على وجه الدعاء بصورة الأمر ، ثم اضطره بمثل ذلك على أن يكون ذلك سؤالاً من إبراهيم أن يمتّع الكافر قليلاً ثم يضطرّه بعد ذلك إلى عذاب النار ، والأوّل أجود لأنّه قراءة الجماعة ، هذا مروي عن ابن عباس .
ومعنى * ( ثُمَّ أَضْطَرُّهُ ) * أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها ، والاضطرار هو الفعل في الغير على وجه لا يمكنه الانفكاك منه ، إذا كان من جنس مقدوره ، ولهذا لا يقال : فلان مضطر إلى كونه - وإن كان لا يمكنه دفعه عن نفسه - لما لم يكن الكون من جنس مقدوره ، ويقال : هو مضطر إلى حركة الفالج وحركة العروق ، لما كانت الحركة من جنس مقدوره .
وقوله : * ( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) * هو الحال التي يؤدّي إليها أولها .
وصار وحال وآل نظائر ، يقال : صار يصير مصيراً ، قياسه رجع يرجع مرجعاً وصيّره تصييراً .
ومعنى الآية سأل سؤال عارف بالله مطيع له ، وهو أن يرزق من الثمرات من آمن بالله ، واليوم الآخر ، فأجاب الله ذلك ، ثم أعلمه أنّه يمنع من كفر به ، لأجل الدنيا ، ولا يمنعه من ذلك كما يتفضّل به على المؤمن ، ثم يضطرّه في الآخرة إلى عذاب النار وبئس المصير ، وهي كما قال : نعوذ بالله منها .