قلنا : لا تناقض في ذلك ، لأنّ وصفه بأنّه محكم كلّه ، المراد به أنّه بحيث لا يتطرّق عليه الفساد والتناقض والاختلاف والتباين والتعارض ، بل لا شيء منه إلاّ وهو في غاية الاحكام إمّا بظاهره أو بدليله ، على وجه لا مجال للطاعنين عليه .
ووصفه بأنّه متشابه أنّه يشبه بعضه بعضاً في باب الاحكام الّذي أشرنا إليه ، وأنّه لا خلل فيه ولا تباين ولا تضاد ولا تناقض ، ووصفه بأنّ بعضه محكم ، وبعضه متشابه ما أشرنا إليه ، من أنّ بعضه ما يفهم المراد بظاهره فيسمّى محكماً ، ومنه ما يشتبه المراد منه بغيره وإن كان على المراد والحق منه دليل فلا تناقض في ذلك بحال .
وأمّا الناسخ فهو كلّ دليل شرعي يدلّ على زوال مثل الحكم الثابت بالنص الأوّل في المستقبل ، على وجه لولاه لكان ثابتاً بالنص الأوّل مع تراخيه عنه ، واعتبرنا دليل الشرع لأنّ دليل العقل إذا دل على زوال مثل الحكم الثابت بالنص الأوّل لا يسمّى نسخاً ، ألا ترى أنّ المكلّف للعبادات ، إذا عجز أو زال عقله ، زالت عنه العبادة بحكم العقل ، ولا يسمّى ذلك الدليل ناسخاً ؟ واعتبرنا زوال مثل الحكم ، ولم نعتبر الحكم نفسه ، لأنّه لا يجوز أن ينسخ نفس ما أمر به ، لأنّ ذلك يؤدّي إلى البداء .
وإنّما اعتبرنا أن يكون الحكم ثابتاً بنص شرعي ، لأنّ ما ثبت بالعقل إذا أزاله الشرع لا يسمّى بأنّه نسخ حكم العقل ، ألا ترى أنّ الصلاة والطواف لولا الشرع لكان قبيحاً فعله في العقل ، وإذا أورد الشرع بهما لا يقال نسخ حكم العقل ؟ واعتبرنا مع تراخيه عنه لأنّ ما يقترن به لا يسمّى نسخاً ، وربما يكون تخصيصاً إن كان اللفظ عاماً ، أو مقيّداً إن كان اللفظ خاصّاً ، ألا ترى أنّه لو قال : اقتلوا المشركين إلاّ اليهود ، لم يكن قوله إلاّ اليهود نسخاً لقوله اقتلوا المشركين ؟ وكذا لو قال : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، فقيّد بهذه الغاية لا يقال لما بعدها