ولم يقولوا هذا إلاّ وقد أذن لهم ، لأنّهم لا يجوز أن يسألوا ما لا يؤذن لهم ما فيه ، ويؤمرون به ، لقوله : * ( وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) * [1] .
فإن قيل : من أين لكم أنّهم كانوا علموا ذلك ؟ قيل : ذلك محذوف لدلالة الكلام عليه ، لأنّا علمنا أنّهم لا يعلمون الغيب ، وليس إذا فسد الجن في الأرض ، وجب أن يفسد الإنس ، وقوّة السؤال تدلّ على أنّهم كانوا عالمين ، وجرى ذلك مجرى قول الشاعر :
فلا تدفنوني إنّ دفني محرّم * * عليكم ولكن خامري أم عامر [2] فحذف قوله : دعوني للتي يقال لها إذا أريد صيدها خامري أم عامر ، فكأنّه قال : إنّي جاعل في الأرض خليفة يكون من ولده إفساد في الأرض وسفك الدماء ، وقال أبو عبيدة والزجاج : انّهم قالوا ذلك على وجه الايجاب وإن خرج مخرج الاستفهام ، كما قال جرير :
ألستم خير من ركب المطايا * * وأندى العالمين بطون راح ؟
فعلى هذا الوجه قال قوم : إنّما أخبروا بذلك عن ظنهم وتوهمهم ، لأنّهم رأوا الجن من قبلهم قد أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء ، فتصوّروا أنّه إن استخلف غيرهم ، كانوا مثلهم ، فقال تعالى منكراً لذلك : * ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) * وهذا قول قتادة وابن عباس وابن مسعود . وقال آخرون : إنّهم قالوه يقيناً لأنّ الله كان أخبرهم أنّه يستخلف في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء ، فأجابوه بعد علمهم بذلك بأن قالوا : * ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) *