صحة النبوة ، فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصدق ما أخبر به من هذا وغيره ( إن الذين كفروا ) بكل ما يجب الإيمان به ، أو بهذا الأمر الخاص ، وهو ما في هذا المقام ( وصدوا عن سبيل الله ) وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقولهم ما نجد صفته في كتابنا وإنما النبوة في ولد هارون وداود ، وبقولهم إن شرع موسى لا ينسخ ( قد ضلوا ضلالا بعيدا ) عن الحق بما فعلوا ، لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق ( إن الذين كفروا ) بجحدهم ( وظلموا ) غيرهم بصدهم عن السبيل أو ظلموا محمدا بكتمانهم نبوته أو ظلموا أنفسهم بكفرهم ، ويجوز الحمل على جميع هذه المعني ( لم يكن الله ليغفر لهم ) إذا استمروا على كفرهم وماتوا كافرين ( ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم ) لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم وفرط شقائهم وجحدوا الواضح وعاندوا البين ( خالدين فيها أبدا ) أي يدخلهم جهنم خالدين فيها ، وهي حال مقدرة . وقوله ( أبدا ) منصوب على الظرفية ، وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل ( وكان ذلك ) أي تخليدهم في جهنم أو ترك المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم ( على الله يسيرا ) لأنه سبحانه لا يصعب عليه شئ - إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون - ( فآمنوا خيرا لكم ) اختلف أئمة النحو في انتصاب خيرا على ماذا ؟ فقال سيبويه والخليل بفعل مقدر : أي واقصدوا أو أتوا خيرا لكم ، وقال الفراء : هو نعت لمصدر محذوف : أي فآمنوا إيمانا خيرا لكم ، وذهب أبو عبيدة والكسائي إلى أنه خبر لكان مقدرة : أي فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ، وأقوى هذه الأقوال الثالث ، ثم الأول ، ثم الثاني على ضعف فيه ( وإن تكفروا ) أي وإن تستمروا على كفركم ( فإن لله ما في السماوات والأرض ) من مخلوقاته ، وأنتم من جملتهم ، ومن كان خالقا لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم ، ففي هذه الجملة وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان . لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم - ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله - قوله ( يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ) الغلو : هو التجاوز في الحد ومنه غلا السعر يغلو غلاء ، وغلا الرجل في الأمر غلوا ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها . والمراد بالآية : النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى ، فمن الإفراط غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا ، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة ، وما أحسن قول الشاعر :
ولا تغل في شئ من الأمر واقتصد * كلا طرفي قصد الأمور ذميم ( ولا تقولوا على الله إلا الحق ) وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله ، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله ، وقول النصارى المسيح ابن الله ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ) المسيح مبتدأ وعيسى بدل منه ، وابن مريم صفة لعيسى ، ورسول الله الخبر ، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان والجملة تعليل للنهي ، وقد تقدم الكلام على المسيح في آل عمران . قوله ( وكلمته ) عطف على رسول الله ، و ( ألقاها سعيد إلى مريم ) حال ، أي كونه بقوله كن فكان بشرا من غير أب ، وقيل ( كلمته ) بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله - إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه - وقيل الكلمة ها هنا بمعنى الآية ، ومنه - وصدقت بكلمات ربها - وقوله - ما نفدت كلمات الله - . قوله ( وروح منه ) أي أرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله ، وهذه الإضافة للتفضيل ، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى ، وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ويضاف إلى الله فيقال هذا روح من الله : أي من خلقه ، كما يقال في النعمة إنها من الله وقيل ( روح منه ) أي من خلقه كما قال تعالى - وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه - أي من خلقه