هذه الآية في النساء بعد قوله - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - بأربعة أشهر ، والآثار عن الصحابة في هذا كثيرة جدا ، والحق ما عرفناك .
هذا متصل بذكر الجهاد والقتال ، والضرب : السير في الأرض ، تقول العرب ضربت في الأرض : إذا سرت لتجار أو غزوة أو غيرهما ، وتقول ضربت الأرض بدون في : إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " لا يخرج رجلان يضربان الغائط . قوله ( فتبينوا ) من التبين وهو التأمل ، وهي قراءة الجماعة إلا حمزة فإنه قرأ " فتثبتوا " من التثبت . واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم قالا : لأن من أمر بالتبين فقد أمر بالثبت ، وإنما خص السفر بالأمر بالتبين ، مع أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضرا وسفرا بلا خلاف ، لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر كما سيأتي . قوله ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم ) وقرئ السلام ، ومعناهما واحد . واختار أبو عبيدة السلام . وخالفه أهل النظر فقالوا ، السلم هنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والتسليم . والمراد هنا : لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمنا ، فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام ، وقيل هما بمعنى الإسلام : أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام : أي كلمته وهي الشهادة لست مؤمنا ، وقيل هما بمعنى التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام : أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم :
لست مؤمنا . والمراد نهى المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ، ويقولوا إنه إنما جاء بذلك تعودا وتقيمة ، وقرأ أبو جعفر ( لست مؤمنا ) من أمنه : إذا أجرته فهو مؤمن .
وقد استدل بهذه الآية على أن من قتل كافرا بعد أن قال لا إله إلا الله قتل به ، لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله ، وإنما سقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم تأولوا ، وظنوا أن من قالها خوفا من السلاح لا يكون مسلما ولا يصير بها دمه معصوما وأنه لا بد من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف ، وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول أنا مسلم أو أنا على دينكم ، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد ، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل ، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة وكلمة التسليم ، فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأول . قوله ( تبتغون عرض الحياة الدنيا ) الجملة في محل نصب على الحال : أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة ، على أن يكون النهي راجعا إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط ، وسمي متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت . قال أبو عبيدة : يقال جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء ، وأما العرض بسكون الراء فهو ما سوى الدنانير والدراهم ، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح ، وليس كل عرض بالفتح عرضا بالسكون . وفي كتاب العين : العرض ما نيل من الدنيا ، ومنه قوله تعالى - تريدون عرض الدنيا - وجمعه عروض . وفي المجمل لابن فارس : والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه ، وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر ، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد . قوله ( فعند الله مغانم كثيرة ) هو تعليل للنهي : أي عند الله مما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور مغانم كثيرة تغتنمونها وتستغنون